الموسوعة العقدية

الفرعُ الثالثُ: مِن فَضائِلِ شَهادةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: أنَّها العَهدُ الذي يتَّخِذُه المُوَحِّدُ عندَ اللهِ

قال اللهُ تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 87] .
أي: ليس للكافرينَ مِن الشَّفاعةِ شَيءٌ يومَ القيامةِ، فلا يَشفَعونَ لأحَدٍ، ولا يستَحِقُّونَ أن يشفَعَ لهم أحدٌ، وأمَّا من كان مُؤمِنًا بالله موحِّدًا ومُطيعًا له؛ فإنَّه يشفعُ لِغَيرِه، وينتَفِعُ بشَفاعةِ غَيرِه له [597] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة مريم)) (ص: 292). .
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 87] قال: (العَهدُ: شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويتبَرَّأُ إلى اللهِ مِنَ الحَولِ والقُوَّةِ، ولا يَرجو إلَّا اللهَ) [598] أخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 633). .
وقال السَّمعانيُّ: (قَولُه: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يعني: لا يَشفَعونَ إلَّا لِمَن اتَّخَذ عندَ الرَّحمنِ عَهدًا، فالعَهدُ هو لا إلهَ إلَّا اللهُ. ويُقالُ: لا يَشفَعُ إلَّا من اتَّخَذ عِندَ الرَّحمنِ عَهدًا، يعني: لا يَشفَعُ إلَّا مُؤمِنٌ) [599] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 315). .
وقال ابنُ كثيرٍ في تَفسيرِ العَهدِ: (هو شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، والقيامُ بحَقِّها) [600] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 265). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (أي: لا يَملِكُ مِن جميعِهم أحَدٌ الشَّفاعةَ إلَّا مَن اتَّخَذ عند الرَّحمنِ عَهدًا، وهم المؤمِنونَ، والعَهدُ: العَمَلُ الصَّالِحُ، والقَولُ بأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، وغَيرُه مِن الأقوالِ يَدخُلُ في ذلك، أي: إلَّا المؤمِنونَ فإنَّهم يَشفَعُ بعضُهم في بعضٍ، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] ، وقد بَيَّن تعالى في مواضِعَ أُخَرَ: أنَّ المعبوداتِ التي يَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ لا تَملِكُ الشَّفاعةَ، وأنَّ مَن شَهِدَ بالحَقِّ يَملِكُها بإذنِ اللهِ له في ذلك، وهو قَولُه تعالى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] ، أي: لكِنْ مَن شَهِدَ بالحَقِّ يَشفَعُ بإذنِ اللهِ له في ذلك) [601] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/ 516). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، مَن أسعَدُ النَّاسِ بشفاعتِك يومَ القيامةِ؟ فقال: ((لقد ظَنَنتُ يا أبا هُرَيرةَ ألَّا يَسألَني عن هذا الحديثِ أحَدٌ أوَّلَ مِنك؛ لِما رأيتُ مِن حِرْصِك على الحديثِ؛ أسعَدُ النَّاسِ بشَفاعتي يومَ القيامةِ مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، خالِصًا مِن قِبَلِ نَفْسِه )) [602] أخرجه البخاري (6570). .
قال ابنُ بطال: (الشَّفاعةُ إنَّما تكونُ في أهلِ الإخلاصِ خاصَّةً، وهم أهلُ التصديقِ بوحدانيَّةِ اللهِ، ورُسُلِه؛ لِقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (خالصًا من قَلْبِه أو نَفْسِه)) [603])) يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (1/176). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (في قَولِه في حديثِ أبي هُرَيرةَ: ((أسعَدُ النَّاسِ بشَفاعتي مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ)) سِرٌّ من أسرارِ التَّوحيدِ، وهو أنَّ الشَّفاعةَ إنَّما تُنالُ بتجريدِ التَّوحيدِ، فمن كان أكمَلَ تَوحيدًا كان أَحرى بالشَّفاعةِ) [604] يُنظر: ((تهذيب السنن)) (13/ 56). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لكُلِّ نَبيٍّ دَعوةٌ مُستجابةٌ، فتعَجَّلَ كُلُّ نَبيٍّ دَعوتَه، وإني اختبَأْتُ دَعوتي شفاعةً لأُمَّتي يومَ القيامةِ، فهي نائِلةٌ -إن شاء اللهُ- من مات من أمَّتي لا يُشرِكُ باللهِ شيئًا )) [605] أخرجه البخاري (6304)، ومسلم (199) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (ما يحصُلُ للعَبدِ بالتَّوحيدِ والإخلاصِ مِن شفاعةِ الرَّسولِ وغَيرِها لا يَحصُلُ بغَيرِه مِنَ الأعمالِ وإن كان صالِحًا، كسُؤالِه الوَسيلةَ للرَّسولِ، فكيف بما لم يأمُرْ به من الأعمالِ، بل نهى عنه؟ فذاك لا يَنالُ به خيرًا لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ، مِثلُ: غُلُوِّ النَّصارى في المسيحِ عليه السَّلامُ؛ فإنَّه يَضُرُّهم ولا ينفَعُهم، ونظيرُ هذا ما في الصَّحيحَينِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ لكُلِّ نَبيٍّ دَعوةً مُستجابةً، وإنِّي اختَبَأْتُ دَعوتي شفاعةً لأمَّتي يومَ القيامةِ، فهي نائِلةٌ -إن شاء اللهُ- من مات لا يُشرِكُ باللهِ شيئًا)). وكذلك في أحاديثِ الشَّفاعةِ كُلِّها إنَّما يَشفَعُ في أهلِ التَّوحيدِ، فبحَسَبِ توحيدِ العبدِ للهِ وإخلاصِه دينَه لله يَستَحِقُّ كرامةَ الشَّفاعةِ وغَيرِها. وهو سُبحانَه عَلَّق الوَعدَ والوَعيدَ والثَّوابَ والعِقابَ والحَمدَ والذَّمَّ بالإيمانِ به وتوحيدِه وطاعتِه؛ فمن كان أكمَلَ في ذلك كان أحَقَّ بتولِّي اللهِ له بخَيرِ الدُّنيا والآخِرةِ) [606] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (27/ 440). .

انظر أيضا: