الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّاني: إنكارُ الوَعدِ أو الوعيدِ أو الاستهزاءُ به

اشتَمَل القُرآنُ الكريمُ على وعدٍ ووعيدٍ، فالوَعدُ يكونُ بالمغفرةِ والرِّضوانِ، والتكريمِ ودُخولِ الجِنانِ، ونحوِ ذلك من أنواعِ الثَّوابِ، والوَعيدُ يكونُ إمَّا بلعنةٍ أو غَضَبٍ، أو دخولِ النَّارِ، وغيرِ ذلك من أنواعِ العِقابِ.
قال اللهُ تعالى: وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ [التوبة: 68] .
 قال الشوَّكاني: (في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ: وَعَد يقالُ في الشَّرِّ، كما يقالُ في الخيرِ) [2459] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 432). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التوبة: 72] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وَعَد اللهُ الذين صَدَّقوا اللهَ ورسولَه وأقَرُّوا به وبما جاء به من عندِ اللهِ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يقولُ: بساتينَ تجري تحتَ أشجارِها الأنْهارُ) [2460] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 557). .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة: 111] .
 قال ابنُ كثيرٍ: (يخبِرُ تعالى أنَّه عاوض عِبادَه المؤمنين عن أنفُسِهم وأموالِهم إذ بذَلوها في سبيلِه بالجَنَّةِ، وهذا من فَضْلِه وكَرَمِه وإحسانِه؛ فإنَّه قَبِلَ العِوَضَ عمَّا يملِكُه بما تفَضَّل به على عبادِه المطيعين له!) [2461] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 218). .
وقال اللهُ تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: فذَكِّرْ -يا مُحمَّدُ- بهذا القُرآنِ الذي أنزَلْتُه إليك، من يخافُ الوعيدَ الذي أوعَدْتُه مَن عصاني وخالف أمري) [2462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 478). .
وقد أخبر سُبحانَه أنَّ من وعَدَه على عَمَلٍ صالحٍ فهو مُنجِزٌ له، فلا يخلِفُ اللهُ وَعْدَه؛ تكَرُّمًا وتفَضُّلًا، فقال: لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم: 6] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقول تعالى ذِكْرُه: وَعَد اللهُ جَلَّ ثناؤه، وعد أنَّ الروم ستغلب فارس من بعد غلبة فارس لهم) [2463] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/ 460). .
وقال اللهُ عز وجل: وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ: وعَدَهم اللهُ هذا الوَعْدَ، وَعْدَ الحَقِّ لا شَكَّ فيه أنَّه مُوفٍ لهم به، الذي كانوا إيَّاه في الدُّنيا يَعِدُهم اللهُ تعالى، وأمَّا الوعيدُ في حقِّ عُصاة المؤمنين فهو تحت مشيئةِ اللهِ تعالى؛ فقد يقعُ جزاءً وعدلًا، وقد يختَلِفُ في حقِّ بعضِ العُصاةِ؛ لانتفاءِ شَرطٍ أو وجودِ مانعٍ) [2464] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 143). .
وقد جاء عمرُو بن عبيد المعتزليُّ إلى أبي عَمِرو بنِ العلاءِ، فقال: يا أبا عَمرٍو، ويُخلِفُ اللهُ ما وَعَدَه؟ قال: لا، قال: أفرأيتَ من أوعده اللهُ على عَمَلٍ عقابًا، أيخلِفُ اللهُ وَعْدَه فيه؟ فقال أبو عَمرِو بنُ العلاءِ: من العُجْمةِ أُتيتَ يا أبا عُثمانَ؛ إنَّ الوَعدَ غيرُ الوعيدِ، إنَّ العَرَبَ لا تَعُدُّ عارًا ولا خُلفًا أن تَعِدَ شَرًّا ثم لا تَفعَلَه، ترى ذلك كَرَمًا وفَضْلًا، وإنَّما الخُلْفُ أن تَعِدَ خيرًا ثم لا تفعَلَه. قال: فأوجِدْني هذا في كلامِ العَرَبِ؟ قال: نعم. أمَا سمعْتَ إلى قولِ الأوَّلِ [2465] البيت لعامر بن الطفيل. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (14/ 223). :
وإنِّي وإن أوعَدْتُه أو وعَدْتُه
لمخلِفُ إيعادي وُمنجِزُ موعدي
وقال يحيى بنُ مُعاذٍ: (الوَعدُ والوعيدُ حَقٌّ، فالوَعدُ حَقُّ العبادِ على الله، ضَمِنَ لهم إذا فعلوا كذا أن يُعطيَهم كذا، ومَن أَولى بالوفاءِ مِن الله؟ والوعيدُ حقُّه على العبادِ، قال: لا تفعَلوا كذا فأعَذِّبَكم، ففَعَلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ؛ لأنَّه حَقُّه، وأَولاهما برَبِّنا تبارك وتعالى العَفوُ والكَرَمُ؛ إنَّه غفورٌ رحيمٌ) [2466] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 73). .
والواجِبُ تُجاه نصوصِ الوَعدِ والوعيد هو الإيمانُ بجميعِها، والتسليمُ لها، وإجلالُها وتعظيمُها، فنؤمِنُ باللهِ تعالى، وما جاء عن اللهِ، على مرادِ الله تعالى، ونؤمِنُ برَسولِ اللهِ، وما جاء عن الرَّسولِ، على مرادِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال الأصبهانيُّ: (أجمع أهلُ الإسلامِ متقَدِّموهم ومتأخِّروهم على روايةِ الأحاديثِ في صفاتِ اللهِ، وفي مسائِلِ القَدَرِ، والرُّؤيةِ، وأصلِ الإيمانِ، والشَّفاعةِ، والحَوْضِ، وإخراجِ الموَحِّدين المذنِبين من النَّارِ، وفي صِفةِ الجَنَّةِ والنَّارِ، وفي الترغيبِ والترهيبِ، والوَعدِ والوعيدِ...) [2467] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (2/230). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (لا رَيبَ أنَّ الكتابَ والسُّنَّةَ فيهما وعدٌ ووعيدٌ، وقد قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] ، وقال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 29-30] ، ومِثلُ هذا كثيرٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، والعَـبدُ علـيه أن يُصَـدِّقَ بهذا وبهذا) [2468] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/270). .
ومن إنكارِ الوَعدِ والوعيدِ زَعْمُ ملاحِدةِ المتصَوِّفةِ أنَّ الجَنَّةَ أو النَّارَ مَعانٍ باطنةٌ يُقصَدُ بها نعيمُ الأرواحِ أو تألُّمُها فقط، أو ما يَزعُمُه بعضُهم أنَّ أهلَ النَّارِ يتنَعَّمون في النَّارِ، كما يتنَعَّمُ أهلُ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ.
وإنكارُ الوَعدِ والوعيدِ والاستهزاءُ بهما ناقِضٌ من نواقِضِ الإيمانِ؛ لعِدَّةِ أسبابٍ، منها:
1- أنَّ الإيمانَ بنصوصِ الوَعدِ والوَعيدِ يتضَمَّنُ الإقرارَ بها وتصديقَها، وإجلالَها وإكرامَها، وهذا الإنكارُ يناقِضُ هذا الإيمانَ؛ فإنكارُ الجَنَّةِ والنَّارِ مَثَلًا يناقِضُ تصديقَ القَلْبِ، كما يناقِضُ قَولَ اللِّسانِ، والاستهزاءُ بنُصوصِ الوَعْدِ والوَعيدِ -ومنها: نصوصُ الجَنَّةِ والنَّارِ- يناقِضُ هذا الإجلالَ والتعظيمَ؛ لأنَّه يناقِضُ عَمَلَ القَلْبِ الذي يوجِبُ توقيرَ وتعظيمَ نصوصِ الوَعْدِ والوَعيدِ.
2- أنَّ هذا الإنكارَ أو الاستهزاءَ بنُصوصِ الوَعْدِ والوَعيدِ تكذيبٌ للقُرآنِ الكريمِ؛ حيث فَرَض اللهُ تعالى الإقرارَ بآياتِه وتصديقَها، وعَدَمَ اتخاذِها هُزُوًا، وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى قد حكَمَ بالكُفرِ على من جحد آياتِه، كما توعَّده بالعذابِ المُهين، وأخبر تعالى بأنَّه لا أحَدَ أظلَمُ ممَّن كذَّب بآياتِ اللهِ تعالى، وأنَّهم لا تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ، ولا يدخُلون الجَنَّةَ.
قال اللهُ تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام: 157] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ جَلَّ ثناؤه: فمَن أخطَأُ فِعلًا وأشَدُّ عُدوانًا منكم أيُّها المُشْرِكون المُكَذِّبون بحُجَجِ اللهِ وأدِلَّتِه، وهي آياتُه وَصَدَفَ عَنْهَا يقولُ: وأعرَضَ عنها بعد ما أتَتْه، فلم يؤمِنْ بها ولم يصَدِّقْ بحقيقتِها... وقَولُه: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ يقولُ: سيُثيبُ اللهُ الذين يُعرِضون عن آياتِه وحُجَجِه، ولا يتدَبَّرونها ولا يتعَرَّفون حقيقتَها؛ فيؤمنوا بما دَلَّتْهم عليه من توحيدِ اللهِ وحَقِّيَّةِ نبُوَّةِ نبيِّه وصِدقِ ما جاءهم به من عندِ رَبِّهم سُوءَ الْعَذَابِ يقولُ: شديدَ العِقابِ، وذلك عذابُ النَّارِ التي أعَدَّها اللهُ لكَفَرةِ خَلْقِه به. بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ يقولُ: يفعَلُ اللهُ ذلك بهم؛ جزاءً بما كانوا يُعرِضون عن آياتِه في الدُّنيا، فلا يَقبَلون ما جاءهم به نبيُّهم مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2469] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 10). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الجاثية: 9] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وَإِذَا عَلِمَ هذا الأفَّاكُ الأثيمُ مِنْ آياتِ اللهِ شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا يقولُ: اتَّخذ تلك الآياتِ التي عَلِمَها هُزُوًا، يَسخَرُ منها، وذلك كفِعْلِ أبي جَهلٍ حين نزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ؛ إذ دعا بتَمرٍ وزُبدٍ، فقال: تزقَّموا من هذا، ما يَعِدُكم مُحَمَّدٌ إلَّا شَهْدًا! وما أشبَهَ ذلك مِن أفعالِهم) [2470] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 76). .
وقد سمَّى اللهُ سُبحانَه الاستهزاءَ بآياتِه كُفرًا، فقال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65-66] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه لنبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ لهؤلاء الذين وصَفْتُ لك صِفَتَهم: لَا تَعْتَذِروا بالباطِلِ، فتقولوا: كنَّا نخوضُ ونلعَبُ قَدْ كَفَرْتُمْ يقول: قد جَحَدْتُم الحَقَّ بقولِكم ما قُلتُم في رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنين به بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يقولُ: بعد تصديقِكم به وإقرارِكم به) [2471] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 546). .
3- أنَّ إنكارَ نُصوصِ الوَعْدِ والوَعيدِ وصَرْفَها عن ظاهِرِها، أو الاستهزاءَ بها: يتضَمَّنُ طعنًا في الأنبياءِ عليهم السَّلام، وتنقُّصًا لهم، واتهامًا لهم بأنَّهم ربَّما كَذَبوا لمصلحةِ الجُمهورِ كما يزعُمُ ملاحِدةُ الفلاسفةِ، مع أنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ صادِقون مُصَدَّقون، قد بلَّغوا البلاغَ المُبِينَ، وأقاموا الحُجَّةَ على النَّاسِ، فهم أفضَلُ الخَلْقِ عند اللهِ تعالى، وأكمَلُ الخَلقِ عِلمًا وعَمَلًا؛ حيث اختَصَّهم اللهُ تعالى بوَحْيِه واصطفاهم من بينِ سائِرِ النَّاسِ.
وإنَّ الطَّعنَ في الأنبياءِ كُفرٌ ورِدَّةٌ عن الإسلامِ، بل إنَّ الطَّعنَ فيهم يَنبوعُ جميعِ أنواعِ الكُفرِ، وجِماعُ الضَّلالاتِ، كما قَرَّره ابنُ تيميَّةَ [2472] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/461). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (فأهلُ التخييلِ هم المتفَلْسِفةُ ومن سلك سبيلَهم من متكَلِّمٍ ومتصَوِّفٍ ومتفَقِّهٍ؛ فإنَّهم يقولون: إنَّ ما ذكره الرَّسولُ من أمرِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخِرِ إنَّما هو تخييلٌ للحقائِقِ لينتَفِعَ بها الجمهورُ، لا أنَّه بيَّن به الحَقَّ، ولا هدى به الخَلْقَ، ولا أوضَحَ به الحقائِقَ!
ثم هم على قِسمَينِ؛ منهم من يقولُ: إنَّ الرَّسولَ لم يعلَمِ الحقائِقَ على ما هي عليه، ويقولون: إنَّ من الفلاسفةِ من عَلِمَها، وكذلك من الأشخاصِ الذين يُسَمُّونهم الأولياءَ مَن عَلِمَها، ويزعمون أنَّ من الفلاسفةِ والأولياءِ من هو أعلَمُ باللهِ واليومِ الآخِرِ مِن المرسَلين! وهذه مقالةُ غُلاةِ المُلحِدين من الفلاسِفةِ والباطنيَّةِ؛ باطنيَّةِ الشِّيعةِ، وباطنيَّة الصُّوفية، ومنهم من يقولُ: بل الرَّسولُ عَلِمَها، لكِنْ لم يُبَيِّنْها، وإنَّما تكَلَّم بما يناقِضُها، وأراد من الخَلْقِ فَهْمَ ما يناقِضُها؛ لأنَّ مَصلحةَ الخَلْقِ في هذه الاعتقاداتِ التي لا تطابِقُ الحَقَّ) [2473] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/31). .
وقال أيضًا: (معلومٌ أنَّ هذا نِسبةٌ للرَّسولِ إلى التلبيسِ وعَدَمِ البيانِ، بل إلى كِتمانِ الحَقِّ وإضلالِ الخَلْقِ، بل إلى التكَلُّمِ بكلامٍ لا يُعرَفُ حَقُّه من باطِلِه؛ ولهذا كان حقيقةُ أمْرِهم الإعراضَ عن الكِتابِ والرَّسولِ) [2474] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/241). .
كما أنَّ هذا الإنكارَ أو الاستهزاءَ بنُصوصِ الوَعْدِ والوَعيدِ: هو تعطيلٌ للشَّرائعِ، وإبطالٌ للأوامِرِ والنَّواهي، وتلاعُبٌ بالنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وتشكيكٌ فيها.
4- هذا الإنكارُ أو الاستهزاءُ مخالِفٌ للإجماعِ، وتكذيبٌ له؛ فقد أجمع المُسلِمون على إثباتِ الوَعْد والوَعيد والتصديقِ به، وأجمع العُلَماءُ على تكفيرِ مُنكِرِه أو المستهزِئِ به.
قال ابنُ حزمٍ: (وأنَّ البَعْثَ حَقٌّ، والحِسابَ حقٌّ، والجَنَّةَ حقٌّ، والنَّارَ حقٌّ، داران مخلوقتانِ مخلَّدتان هما ومَن فيهما بلا نهايةٍ، يجمَعُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ بين الأرواحِ والأجسادِ، كُلُّ هذا إجماعُ أهلِ الإسلامِ، من خرج عنه خرج عن الإسلامِ) [2475] يُنظر: ((الدرة)) (ص: 311). .
وقال أيضًا: (كُلُّ ما في القُرآنِ من أمورِ الجَنَّةِ مِن أكلٍ وشربٍ وجماعٍ، والحُورِ العِينِ، والوِلْدان المخَلَّدين؛ ولباسٍ وعذابٍ في النَّارِ بالزَّقُّومِ والحميمِ، والأغلالِ وغيرِ ذلك- فكُلُّه حَقٌّ، ... فمن خالف شيئًا من هذا فقد خرج عن الإسلامِ؛ لخِلافِه القُرآنَ والسُّنَنَ والإجماعَ) [2476] يُنظر: ((الدرة)) (ص: 323). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أمَّا الإقرارُ بالجَنَّةِ والنَّارِ فواجِبٌ مجتَمَعٌ عليه؛ ألا ترى أنَّ ذلك ممَّا يُكتَبُ في صُدورِ الوصايا مع الشَّهادةِ بالتوحيدِ، وبالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2477] يُنظر: ((التمهيد)) (12/190). .
وقال عياضٌ: (وكذلك من دان بالوَحدانيَّةِ وصِحَّةِ النُّبُوَّة، ونُبُوَّةِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنْ جَوَّز على الأنبياءِ الكَذِبَ فيما أتوا به، ادَّعى في ذلك المصلحةَ بزَعمِه أو لم يدَّعِها؛ فهو كافِرٌ بإجماعٍ، كالمتفلسِفين وبعضِ الباطنيَّة، وغُلاةِ المتصَوِّفة، وأصحابِ الإباحةِ؛ فإنَّ هؤلاء زعموا أنَّ ظواهِرَ الشَّرعِ وأكثَرَ ما جاءت به الرُّسُلُ من الأخبارِ عمَّا كان ويكونُ من أمورِ الآخِرةِ والحَشرِ والقيامةِ، والجَنَّة والنَّار- ليس منها شيءٌ على مقتضى لَفْظِها ومفهومِ خِطابِها، وإنَّما خاطبوا بها الخَلْقَ على جهةِ المصلحةِ لهم؛ إذ لم يمكِنْهم التصريحُ لقُصورِ أفهامِهم، فمُضمَّنُ مقالاتِهم إبطالُ الشَّرائعِ، وتعطيلُ الأوامِرِ والنَّواهي، وتكذيبُ الرُّسُلِ، والارتيابُ فيما أَتَوا به) [2478] يُنظر: ((الشفا)) (2/283). .
وقال أيضًا: (وكذلك من أنكَرَ الجَنَّة أو النَّارَ، أو البَعْثَ أو الحِسابَ أو القيامةَ؛ فهو كافِرٌ بإجماعٍ؛ للنَّصِّ عليه، وإجماعِ الأُمَّةِ على صِحَّةِ نَقْلِه متواترًا، وكذلك من اعترف بذلك، ولكِنَّه قال: إنَّ المرادَ بالجَنَّةِ والنَّارِ، والحَشْرِ والنَّشرِ، والثَّوابِ والعِقابِ- معنًى غيرُ ظاهِرِه، وأنَّها لذَّاتٌ رُوحانيَّةٌ، ومعانٍ باطِنةٌ) [2479] يُنظر: ((الشفا)) (2/290). .
وقال البقاعي: (اعلَمْ أنَّه ثبت بالدَّلائِلِ العَقليَّةِ والسَّمعيةِ وإجماعِ المُسلِمين أنَّ قَولَ اللهِ حَقٌّ، وخَبَرَه صِدقٌ، وذلك واجِبٌ له لذاتِه سُبحانَه وتعالى، ومن أنكر أنَّ خَبَرَ اللهِ حَقٌّ، أو أنَّ وَعْدَه ووَعيدَه صِدقٌ؛ فهو كافِرٌ بإجماعِ المُسلِمين) [2480] يُنظر: ((مصرع التصوف)) (1/159). .
وقال الشوكاني: (عُلَماءُ الملَّةِ الإسلاميَّةِ مجمِعون على ذلك يعني: على إثباتِ المعادِ الجُسْماني، وإثباتِ اللَّذَّاتِ الجُسْمانيَّة والنَّفسانيَّة في الجَنَّة لا يخالِفُ منهم فيه مخالِفٌ، ونُصوصُ القُرآنِ من فاتحتِه إلى خاتمتِه مُصَرِّحةٌ بإثباتِ المعادِ الجُسْماني، وإثباتِ تنعُّمِ الأجسامِ فيه بالمطعَمِ والمشرَبِ والمنكَحِ وغيرِ ذلك، أو تعذيبِها، بما اشتَمَل عليه القُرآنُ من تلك الأنواعِ المذكورةِ فيه، وهكذا النُّصوصُ النبَويَّةُ المُحمَّديَّةُ مُصَرِّحةٌ بذلك تصريحًا يفهَمُه كُلُّ عاقِلٍ، بحيث لو جُمِع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلَّفًا بَسيطًا) [2481] يُنظر: ((إرشاد الثقات)) (ص: 19). .
ومن أقوالِ العُلَماءِ في ذلك:
قَولُ أبي حامدٍ الغَزالي بعد تكفيرِه من زعم أنَّ الجَنَّةَ لَذَّةٌ رُوحيَّةٌ، وأنَّ النَّارَ شَقاءٌ نفسي: (الذي نختارُه ونقطَعُ به أنَّه لا يجوُز التوقُّفُ في تكفيرِ من يعتقد شيئًا من ذلك؛ لأنَّه تكذيبٌ صريحٌ لصاحِبِ الشَّرعِ، ولجميعِ كَلِماتِ القُرآنِ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها؛ فوَصْفُ الجَنَّةِ والنَّارِ لم يتَّفِقْ ذِكْرُه مرَّةً واحِدةً أو مرَّتين، ولا جرى بطريقِ كنايةٍ أو توسُّعٍ وتجَوُّزٍ، بل بألفاظٍ صريحةٍ لا يُتمارى فيها ولا يُستَرابُ) [2482] يُنظر: ((فضائح الباطنية)) (ص153). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (قد يقولُ حُذَّاقُ هؤلاء مِن الإسماعيليَّةِ والقرامِطةِ، وقَوم يتصَوَّفون، أو يتكَلَّمون وهم غاليةُ المُرجئةِ: إنَّ الوَعيدَ الذي جاءت به الكُتُبُ الإلهيَّةُ إنَّما هو تخويفٌ للنَّاسِ؛ لِتَنزجِرَ عمَّا نُهِيَت عنه، من غيرِ أن يكونَ له حقيقةٌ،... وهؤلاء هم الكُفَّارُ برُسُلِ اللهِ وكُتُبِه واليومِ الآخِرِ، المنكِرون لأمْرِه ونَهْيِه، ووَعْدِه ووَعيدِه) [2483] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (19/150). .
وقال مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (من استهزأ بشيءٍ من دينِ اللهِ، أو ثوابِه أو عقابِه؛ كفَرَ، والدَّليلُ قَولُه تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]) [2484] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/361). .
وقال ابنُ باز: (وهكذا الاستهزاءُ باللهِ أو برَسولِه أو بالجَنَّةِ أو بالنَّارِ أو بأوامِرِ اللهِ، كالصَّلاةِ والزكاةِ؛ فالاستهزاءُ بشَيءٍ من هذه الأمورِ من نواقِض الإسلامِ؛ قال اللهُ سُبحانَه: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]) [2485] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/387). .



انظر أيضا: