موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في مَشروعيَّةِ الجِدالِ والمُناظَرةِ وأهَمِّيَّتِهما

الجِدالُ: هو: المُفاوضةُ على سَبيل المُنازَعةِ والمُغالَبةِ لإلزامِ الخَصمِ.
وقد يُذكَرُ الجِدالُ ويُرادُ به مُجَرَّدُ مُراجَعةِ الكَلامِ بَينَ المُتَخاطِبَينِ، بدونِ إلزامٍ أو مُغالَبةٍ، كما قال اللهُ تَعالى: قد سَمِعَ اللهُ قَولَ التي تُجادِلُكَ في زَوجِها وتَشتَكي إلى اللهِ واللهُ يَسمَعُ تَحاوُرَكُما إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ [المجادلة: 1] .  
وأمَّا المُناظَرةُ فهيَ: تَرَدُّدُ الكَلامِ بَينَ شَخصَينِ يَقصِدُ كُلُّ واحِدٍ مِنهما تَصحيحَ قَوله وإبطالَ قَول صاحِبه، مَعَ رَغبةِ كُلٍّ مِنهما في ظُهورِ الحَقِّ [2457] يُنظر: ((مناهج الجدل)) للألمعي (ص: 30)، ((الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية)) لخالد المغامسي (ص: 17). ويُنظر أيضًا: ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 139). .
وقيلَ: لا فرقَ بَينَ الجِدالِ والمُناظَرةِ اصطِلاحًا [2458] ((الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية)) لخالد المغامسي (ص: 17). ويُنظر: ((مناهج الجدل في القرآن الكريم)) للألمعي (ص: 29، 30). .
والأصلُ في مَشروعيَّةِ الجِدالِ والمناظَرةِ قَولُه تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ، وقَولُه: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] ، وقَولُه: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: 33] .
وأقَلُّ مَراتِبِ حُكمِهما الجَوازُ إن كانا على الوَجهِ المَطلوبِ، وقال بَعضُهم باستِحبابِهما. وقيل: إنَّ القَدرَ الذي يَلزَمُ لإبطالِ شُبَهِ خُصومِ الحَقِّ فَرضُ كِفايةٍ... [2459] ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 139). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (الجِدالُ قد يَكونُ واجِبًا أو مُستَحَبًّا، كما قال تَعالى: وجادِلْهُمْ بالَّتي هيَ أحسَنُ وقد يَكونُ الجِدالُ مُحَرَّمًا في الحَجِّ وغَيرِه، كالجِدالِ بغَيرِ عِلمٍ، وكالجِدالِ في الحَقِّ بَعدَ ما تَبَيَّنَ) [2460] مجموع الفتاوى (26/ 107). .
وللجِدالِ والمُناظَرةِ فوائِدُ كَثيرةٌ، مِنها:
- تَحقيقُ شَعيرةِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ التي هيَ مَناطُ خَيريَّةِ هذه الأُمَّةِ.
- إظهارُ الحَقِّ وتَقريرُه وإيضاحُه وتَجليَتُه.
- مَحقُ الباطِلِ وتَعريَتُه، وكَسرُ المُبطِلِ وقَطعُه لكَفِّ شَرِّه عَنِ النَّاسِ؛ لكَي لا يَغتَرَّ به أحَدٌ.
- كَشفُ الشُّبَهِ العارِضةِ التي تَحولُ دونَ اتِّباعِ الحَقِّ، أو تُشَكِّكُ أتباعَه فيه.
- هدايةُ المُستَرشِدِ إذا كان طالبًا للحَقِّ [2461] يُنظر: ((مختصر فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (ص: 27). إلى غيرِ ذلك.
والجِدالُ مِنه ما هو مَحمودٌ، وهو كُلُّ جِدالٍ أيَّدَ الحَقَّ أو أفضى إليه بنيَّةٍ خالصةٍ وطَريقٍ صَحيحٍ، ومِنه ما هو مَذمومٌ، وهو كُلُّ جِدالٍ ظاهَر الباطِلَ أو أفضى إليه [2462] يُنظر: ((الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية)) لخالد المغامسي (ص: 26). .
قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (مِنَ الجِدالِ ما هو مَحمودٌ مَأمورٌ به، ومِنه مَذمومٌ مَنهيٌّ عَنه... فالجِدالُ المَذمومُ وجهانِ؛ أحَدُهما: الجِدالُ بغَيرِ عِلمٍ. الثَّاني: الجِدالُ بالشَّغبِ والتَّمويهِ نُصرةً للباطِلِ بَعدَ ظُهورِ الحَقِّ وبَيانِه، قال اللهُ تَعالى: وجادَلوا بالباطِلِ ليُدحِضُوا به الحَقَّ فأخَذتُهم فكَيفَ كَانَ عِقَابِ [غافر: 5] . وأمَّا جِدالُ المُحِقِّينَ فمِنَ النَّصيحةِ في الدِّينِ، ألا تَرى إلى قَومِ نوحٍ عليه السَّلامُ حَيثُ قالوا: يا نوحُ قَدْ جادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا [هود: 32] وجَوابُه لَهم: ولا يَنفعُكُم نُصْحِي إِنْ أَرَدتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُريدُ أَنْ يُغويَكُمْ [هود: 34] ) [2463] ((الفقيه والمتفقهـ)) (1/ 556). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (جِنسُ المُناظَرةِ والمُجادَلةِ فيها: مَحمودٌ ومَذمومٌ، ومَفسَدةٌ ومَصلَحةٌ، وحَقٌّ وباطِلٌ. ومَنشَأُ الباطِل مِن نَقصِ العِلمِ، أو سوءِ القَصدِ، كما قال تَعالى: إن يَتَّبعونَ إلَّا الظَّنَّ وما تَهوى الأنفُسُ [النجم: 23] ، ومَنشَأُ الحَقِّ مِن مَعرِفةِ الحَقِّ والمَحَبَّةِ لهـ) [2464] ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 174). .
وفيما يَلي نَذكُرُ أهَمَّ الآدابِ التي تَتَعَلَّقُ بالجِدالِ والمُناظَرةِ:

انظر أيضا: