أوَّلًا: الإخلاصُ وحُسنُ النِّيَّةِ
مِن آدابِ الجِدالِ والمُناظَرةِ: الإخلاصُ للَّهِ تَعالى، وحُسنُ النِّيَّةِ والقَصدِ، بأن يَقصِدَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفينِ النَّصيحةَ وظُهورَ الحَقِّ ولَو على يَدِ خَصمِه، دونَ قَصدِ الغَلَبةِ والانتِصارِ أو العُلوِّ
[2465] يُنظر: ((فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (ص: 174، 176، 179)، ((الرد على المخالف من أصول الإسلام)) لبكر أبو زيد (ص: 56)، ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص: 522) . .
من أقوالِ العُلَماءِ:قال البَغداديُّ: (ويُخلصُ النِّيَّةَ في جِدالِه بأن يَبتَغيَ به وجهَ اللهِ تَعالى... وليَكُنْ قَصدُه في نَظَرِه إيضاحَ الحَقِّ وتَثبيتَه دونَ المُغالَبةِ للخَصمِ)
[2466] ((الفقيه والمتفقهـ)) (2/ 48). .
وقال إمامُ الحَرَمَينِ الجُوَينيُّ: (فأوَّلُ شَيءٍ فيه مِمَّا على النَّاظِرِ: أن يَقصِدَ التَّقَرُّبَ إلى اللهِ سُبحانَه، وطَلَبَ مَرضاتِه في امتِثال أمرِه سُبحانَه فيما أمَرَ به مِنَ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ، والدُّعاءَ إلى الحَقِّ عَنِ الباطِلِ، وعما يُخبرُ فيه، ويُبالغُ قدرَ طاقَتِه في البَيانِ والكَشفِ عَن تَحقيقِ الحَقِّ وتَمحيقِ الباطِلِ. ويَتَّقي اللَّهَ أن يَقصِدَ بنَظَرِه المُباهاةَ وطَلَبَ الجاهِ، والتَّكَسُّبَ والمُماراةَ، والمَحْكَ، والرِّياءَ، ويَحذَرُ أليمَ عِقابِ اللهِ سُبحانَه، ولا يَكُنْ قَصدُه الظَّفَرَ بالخَصمِ، والسُّرورَ بالغَلَبةِ والقَهرِ...)
[2467] ((الكافية في الجدل)) (ص: 529). .
وقال المُزَنيُّ: (وحَقُّ المُناظَرةِ أن يُرادَ بها اللهُ عَزَّ وجَلَّ وأن يُقبَلَ مِنها ما يَتَبَيَّنُ)
[2468] ((جامع بيان العلم وفضلهـ)) لابن عبد البر (2/ 972). .
وقال أبو يوسُف: (يا قَومِ، أريدوا بعِلمِكُمُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ؛ فإنِّي لَم أجلِسْ مَجلسًا قَطُّ أنوي فيه أن أتَواضَعَ إلَّا لَم أقُمْ حَتَّى أعلوَهم، ولَم أجلِسْ مَجلسًا قَطُّ أنوي فيه أن أعلوَهم إلَّا لَم أقُمْ حَتَّى أفتَضِحَ)
[2469] ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (2/ 49). .
وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (واعلَمْ أنَّه لَم تَكُنْ مُناظَرةٌ بَينَ اثنَينِ أو جَماعةٍ مِنَ السَّلَفِ إلَّا لتَفهُّمِ وجهِ الصَّوابِ، فيُصارُ إليهـ)
[2470] ((جامع بيان العلم وفضله )) لابن عبد البر (2/ 1137). .
وقال الشَّافِعيُّ: (ما ناظَرتُ أحَدًا فأحبَبتُ أن يُخطِئَ، وما في قَلبي مِن عِلمٍ إلَّا وَدِدتُ أنَّه عِندَ كُلِّ أحَدٍ ولا يُنسَبُ إليَّ). وفي لفظٍ: (ما ناظَرتُ أحَدًا إلَّا على النَّصيحةِ)
[2471] رواه ابنُ أبي حاتم في ((آداب الشافعي ومناقبهـ)) (ص: 67-69). .
وقال أيضًا: (ما ناظَرتُ أحَدًا قَطُّ على الغَلَبةِ، وودِدتُ إذا ناظَرتُ أحَدًا أن يُظهِرَ اللَّهُ الحَقَّ على يَدَيهـ)
[2472] ((المجموع)) للنووي (1/ 12، 28). .
وقال أيضًا: (ما كَلَّمتُ أحَدًا قَطُّ إلَّا أحبَبتُ أن يُوَفَّقَ ويُسَدَّدَ ويُعانَ، ويَكونَ عليه رِعايةٌ مِنَ اللهِ تعالى وحِفظٌ، وما كَلَّمتُ أحَدًا قَطُّ وأنا أُبالي أن يُبَيِّنَ اللهُ الحَقَّ على لساني أو على لسانِه، وما أورَدتُ الحَقَّ والحُجَّةَ على أحَدٍ فقَبِلَها مِنِّي إلَّا هِبتُه واعتَقدتُ مَحَبَّتَه، ولا كابَرَني أحَدٌ على الحَقِّ ودافَعَ الحُجَّةَ إلَّا سَقَطَ مِن عَيني ورَفضتُهـ)
[2473] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 26). .
وقال الغَزاليُّ عن المُنَاظِر: (أن يَكونَ في طَلَبِ الحَقِّ كناشِدِ ضالَّةٍ لا يُفرِّقُ بَينَ أن تَظهَرَ الضَّالَّةُ على يَدِه أو على يَدِ مَن يُعاوِنُه، ويَرى رَفيقَه مُعينًا لا خَصمًا، ويَشكُرُه إذا عَرَّفه الخَطَأَ وأظهَرَ له الحَقَّ، كَما لو أخَذَ طَريقًا في طَلَبِ ضالَّتِه فنَبَّهَه صاحِبُه على ضالَّتِه في طَريقٍ آخَرَ؛ فإنَّه كان يَشكُرُه ولا يَذُمُّه، ويُكرِمُه ويَفرَحُ به؛ فهَكَذا كانت مُشاوراتُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم...
فانظُرْ إلى مُناظِري زَمانِك اليَومَ، كَيف يَسودُّ وَجهُ أحَدِهم إذا اتَّضَحَ الحَقُّ على لسانِ خَصمِه؟ وكَيف يَخجَلُ به وكَيف يَجهَدُ في مجاحَدتِه بأقصى قُدرَتِه؟ وكَيف يَذُمُّ مَن أفحَمَه طولَ عُمرِه؟ ثُمَّ لا يَستَحي مِن تَشبيهِ نَفسِه بالصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم في تَعاوُنِهم على النَّظَرِ في الحَقِّ!)
[2474] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 44). .
وقال الغَزاليُّ أيضًا في آفاتِ المُناظَرةِ: (ومِنها الرِّياءُ ومُلاحَظةُ الخَلقِ والجهدُ في استِمالةِ قُلوبِهم وصَرفِ وُجوهِهم، والرِّياءُ هو الدَّاءُ العُضالُ... والمُناظِرُ لا يَقصِدُ إلَّا الظُّهورَ عِندَ الخَلقِ وانطِلاقَ ألسِنَتِهم بالثَّناءِ عليهـ)
[2475] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 47). .
وقال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (إن قَصَدَ كُلُّ واحِدٍ بمُناظَرَتِه إرشادَ خَصمِه إلى ما ظَهَرَ له مِنَ الحَقِّ فهما مَأجورانِ على قَصدِهما وتَناظُرِهما؛ لأنَّهما مُتَسَبِّبانِ إلى إظهارِ الحَقِّ، وإن قَصَدَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما أن يَظهَرَ على خَصمِه ويَغلبَه، سَواءٌ أكان الحَقُّ مَعَه أو مَعَ خَصمِه فهما آثِمانِ)
[2476] ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) (1/ 141). .
وقال الآجُرِّيُّ: (فالمُؤمِنُ العالمُ العاقِلُ يَخافُ على دينِه مِنَ الجَدَلِ والمِراءِ. فإن قال قائِلٌ: فما يَصنَعُ في عِلمٍ قد أشكَلَ عليه؟ قيلَ له: إذا كان كذلك وأرادَ أن يَستَنبطَ عِلمَ ما أشكَلَ عليه، قَصَدَ إلى عالمٍ مِمَّن يَعلَمُ أنَّه يُريدُ بعِلمِه اللَّهَ، مِمَّن يُرتَضى عِلمُه وفهمُه وعَقلُه، فذاكَرَه مُذاكَرةَ مَن يَطلُبُ الفائِدةَ، وأعلَمَه أنَّ مُناظَرَتي إيَّاكَ مُناظَرةُ مَن يَطلُبُ الحَقَّ، وليست مُناظَرةَ مُغالبٍ، ثُمَّ ألزَمَ نَفسَه الإنصافَ له في مُناظَرَتِه، وذلك أنَّه واجِبٌ عليه أن يُحِبَّ صَوابَ مُناظِرِه ويَكرَهَ خَطَأه، كما يُحِبُّ ذلك لنَفسِه ويَكرَهُ له ما يَكرَهُ لنَفسِه، ويُعلمُه أيضًا: إن كان مُرادُكَ في مُناظَرَتي أن أُخطِئَ الحَقَّ وتَكونَ أنتَ المُصيبَ، ويَكونَ أنا مُرادي أن تُخطِئَ الحَقَّ وأكونَ أنا المُصيبَ، فإنَّ هذا حَرامٌ علينا فِعلُه؛ لأنَّ هذا خُلُقٌ لا يَرضاه اللهُ مِنَّا، وواجِبٌ علينا أن نَتوبَ مِن هذا. فإن قال: فكَيف نَتَناظَرُ؟ قيلَ له: مُناصَحةٌ. فإن قال: كَيف المُناصَحةُ؟ أقولُ له: لَمَّا كانت مَسألةٌ فيما بَينَنا أقولُ أنا: إنَّها حَلالٌ، وتَقولُ أنتَ: إنَّها حَرامٌ، فحُكمُنا جَميعًا أن نَتَكَلَّمَ فيها كَلامَ مَن يَطلُبُ السَّلامةَ، مُرادي أن يَنكَشِفَ لي على لسانِكَ الحَقُّ، فأصيرَ إلى قَولكَ، أو يَنكَشِفَ لَكَ على لساني الحَقُّ فتَصيرَ إلى قَولي مِمَّا يوافِقُ الكِتابَ والسُّنَّةَ والإجماعَ، فإن كان هذا مُرادَنا رَجَوتُ أن تُحمَدَ عَواقِبُ هذه المُناظَرةِ، ونوفَّقَ للصَّوابِ، ولا يَكونَ للشَّيطانِ فيما نَحنُ فيه نَصيبٌ)
[2477] ((أخلاق العلماء)) (ص: 60). .