موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (46-61)

ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ

غريب الكلمات:

ذَوَاتَا أَفْنَانٍ: أي: أغْصانٍ، واحِدُها فَنَنٌ، وهو الغُصنُ المُستَقيمُ طُولًا. وقيل: الأفنانُ: الألوانُ المُختَلِفةُ [369] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 82)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/435)، ((البسيط)) للواحدي (21/183)، ((المفردات)) للراغب (ص: 645)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 308). .
بَطَائِنُهَا: جَمعُ بِطانةٍ، وهي الَّتي تحتَ الظِّهارةِ مِمَّا يلي الأرضَ [370] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 441)، ((تفسير ابن جرير)) (22/242)، ((تفسير البغوي)) (7/453). .
إِسْتَبْرَقٍ: أي: ما غَلُظَ مِنَ الحَريرِ، وهو فارسيٌّ مُعَرَّبٌ [371] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 442)، ((تفسير ابن جرير)) (22/242)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 107)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ: أي: ثَمَرُهما قَريبٌ يَنالُه القائِمُ والقاعِدُ والنَّائِمُ، والجَنَى: ما يُجتَنَى مِنَ الثِّمارِ، وأصلُ (جني): أخْذُ الثَّمرةِ مِن شجرِها، وأصلُ (دنو): المُقارَبةُ [372] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 442)، ((تفسير ابن جرير)) (22/242)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 107)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/482) و (2/303)، ((تفسير البغوي)) (7/453)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ: أي: حابِساتُ الأبصارِ على أزواجِهنَّ، وأصلُ (قصر): يدُلُّ على الحَبسِ [373] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 371)، ((تفسير ابن جرير)) (19/537)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 378)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/97)، ((المفردات)) للراغب (ص: 673)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 276)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716). .
يَطْمِثْهُنَّ: أي: يَمْسَسْهنَّ ويَفتَضَّهنَّ ويَدْنُ مِنهنَّ، والطَّمْثُ: النِّكاحُ بالتَّدميَةِ، وأصلُه مِنَ الطَّمْثِ، وهو الدَّمُ [374] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 442)، ((تفسير ابن جرير)) (22/246)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 525)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/423)، ((تفسير البغوي)) (7/454)، ((المفردات)) للراغب (ص: 524). .

المعنى الإجمالي:

بعدَ أنْ أخبَر الله تعالى عمَّا أعدَّه للمجرِمينَ مِن عِقابٍ يخبِرُ عمَّا أعدَّه للمُتَّقينَ مِن جزيلِ الثَّوابِ، فيقولُ: ولِمَنْ خاف مَقامَه بيْنَ يَدَيِ اللهِ للحِسابِ يومَ القيامةِ: جَنَّتانِ في الآخِرةِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
وهاتانِ الجَنَّتانِ ذَواتا أغصانٍ كَثيرةٍ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
وفي هاتَينِ الجنَّتينِ عَينانِ تَجريانِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
وفيهما مِن كُلِّ أنواعِ الفاكِهةِ صِنفانِ مُختَلِفانِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
 يَتنَعَّمُ أهلُها مُتَّكِئينَ على فُرُشٍ بطائنُها مِنَ الحَريرِ الغَليظِ اللَّامِعِ، فكيف بظَواهِرِها الَّتي تَلِي بَشَرَتَهم؟!
وثَمَرُ هاتَينِ الجنَّتينِ قَريبٌ مِن أهلِهما، فيَتناوَلونَه بيُسرٍ وسُهولةٍ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
وفيهنَّ نِساءٌ قد قَصَرْنَ نَظَرَهنَّ على أزواجِهنَّ، فلا يَرغَبْنَ في غَيرِهم، ولم يُجامِعْهنَّ ويَفتَضَّ بَكارتَهنَّ قبْلَ أزواجِهنَّ أحَدٌ مِنَ الإنسِ أو الجِنِّ! فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
أولئك الحُورُ العِينُ كأنَّهنَّ الياقوتُ والمَرْجانُ في الصَّفاءِ واللَّونِ! فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
 ثمَّ يقولُ تعالى: هل جَزاءُ مَن أحسَنَ العَمَلَ في الدُّنيا إلَّا أن يُحسَنَ إليه بالنَّعيمِ في الآخِرةِ؟! فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!

تفسير الآيات:

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى ما يُفعَلُ بالمُجرِمينَ؛ ذَكَر جَزاءَ المُتَّقينَ الخائِفينَ [375] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 831). .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46).
أي: ولكلِّ مَن خاف -مِنَ الإنسِ والجِنِّ- مَقامَه بيْنَ يَدَيِ اللهِ للحِسابِ يومَ القيامةِ، فاتَّقاه في الدُّنيا بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهِيه: جَنَّتانِ في الآخِرةِ [376] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/235)، ((تفسير الزمخشري)) (4/451)، ((تفسير ابن عطية)) (5/233)، ((تفسير القرطبي)) (17/176، 177)، ((تفسير ابن كثير)) (7/501)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 318). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. وجوَّز الزَّمخشري أنَّ المرادَ: خاف قيامَ اللهِ عليه في الدُّنيا، ومُراقبتَه لأعمالِه، وإحصاءَها عليه،  وهو ظاهِرُ اختيارِ السعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/506). قال ابنُ جُزَي: (واختُلِف هل الجنَّتانِ لكُلِّ خائفٍ على انفِرادِه؟ أو للصِّنفِ الخائِفِ، وذلك مبنيٌّ على قَولِه: «لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ» هل يُرادُ به واحِدٌ أو جماعةٌ؟ وقال الزمخشريُّ: إنَّما قال: جنَّتانِ؛ لأنَّه خاطَبَ الثَّقَلينِ، فكأنَّه قال: جَنَّةٌ للإنسِ، وجنَّةٌ للجِنِّ). ((تفسير ابن جزي)) (2/330). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/452). وقال الواحدي: (قولُه تعالى: جَنَّتَانِ كلامُ بَعضِ المفَسِّرينَ يدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَن تَرَك المعصيةَ خَوفًا مِنَ اللهِ، فله جنَّتانِ على حِدَتِه، لا يشارِكُه فيهما غيرُه، وكلامُ بَعضِهم يدُلُّ على أنَّهما جَنَّتانِ لكُلِّ مَن خاف اللهَ تبارك وتعالى بتَركِ المعصيةِ، على المشارَكةِ فيهما، وهذا معنى قَولِ مُقاتِلٍ، يعني: جَنَّةَ عَدْنٍ، وجنَّةَ النَّعيمِ). ((البسيط)) (21/181). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/202). وقال السعدي: (له جَنَّتانِ مِن ذَهَبٍ آنيتُهما وحِلْيتُهما وبُنيانُهما وما فيهما؛ إحدى الجنَّتينِ جزاءٌ على تَركِ المَنهيَّاتِ، والأُخرى على فِعلِ الطَّاعاتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 831). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير الشوكاني)) (5/168)، ((تفسير الألوسي)) (14/115). .
قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40، 41].
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت هذه نِعمةً جامِعةً؛ سَبَّبَ عنها قَولَه تعالى [377] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/180). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [378] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/239). ؟!
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت البَساتينُ لا يَكمُلُ مَدحُها إلَّا بكَثرةِ الأنواعِ والألوانِ، والفُروعِ المُشتَبِكةِ والأغصانِ؛ قال واصِفًا لهما [379] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/180). :
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48).
أي: وهاتانِ الجَنَّتانِ صاحِبَتا أغصانٍ كَثيرةٍ [380] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/452)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 165)، ((تفسير ابن كثير)) (7/502)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/266)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 319). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [381] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/242). ؟!
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت الجِنانُ لا تقومُ إلَّا بالأنهارِ؛ قال [382] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/181). :
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50).
أي: في هاتَينِ الجنَّتينِ عَينانِ تَجريانِ [383] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/242)، ((تفسير ابن كثير)) (7/503)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831). قال القرطبي: (أي: في كلِّ واحدةٍ منهما عينٌ جاريةٌ). ((تفسير القرطبي)) (17/178). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/181)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/266). وقال ابن الجوزي: (قولُه تعالى: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ قال ابنُ عبَّاسٍ: تَجريانِ بالماءِ الزُّلالِ، إحداهما: السَّلْسَبيلُ، والأُخرى: التَّسْنِيمُ. وقال عطيَّةُ: إحداهما: مِن ماءٍ غيرِ آسِنٍ، والأخرى: مِن خَمرٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/213). واستظهر ابنُ عثيمين أنَّ هاتَينِ العينَينِ الجاريتَينِ غيرُ الأنهارِ الأربعةِ الَّتي ذكر اللهُ أنَّها في الجنَّةِ مِن ماءٍ ولَبَنٍ وخَمْرٍ وعَسَلٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 319). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [384] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/197)، ((تفسير الشوكاني)) (5/169). ؟!
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان بالمياهِ حَياةُ النَّباتِ وزَكاؤُه، قال ذاكِرًا أفضَلَ النَّباتِ [385] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/181). :
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52).
أي: في الجنَّتينِ مِن كُلِّ أنواعِ الفاكِهةِ صِنفانِ مُختَلِفانِ [386] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/242)، ((تفسير القرطبي)) (17/179)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 103)، ((تفسير ابن كثير)) (7/503)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 319). قال ابنُ القيِّم: (اختُلِفَ في هذين الزَّوجَينِ بعدَ الاتِّفاقِ على أنَّهما صِنفانِ؛ فقالت طائِفةٌ: الزَّوجانِ: الرَّطْبُ، واليابِسُ الَّذي لا يَقصُرُ في فَضلِه وجَودتِه عن الرَّطبِ، وهو مُتمَتَّعٌ به كما يُتمتَّعُ باليابِسِ، وفيه نظَرٌ لا يخفَى. وقالت طائِفةٌ: الزَّوجانِ: صِنفٌ مَعروفٌ، وصِنفٌ مِن شَكلِه غَريبٌ. وقالت طائفةٌ: نَوعانِ، ولم تَزِدْ. والظَّاهِرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّه الحُلوُ والحامِضُ، والأبيضُ والأحمَرُ؛ وذلك لأنَّ اختِلافَ أصنافِ الفاكِهةِ أعجَبُ وأشهى، وألَذُّ للعَينِ والفَمِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 103). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/266). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [387] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/242)، ((تفسير الشوكاني)) (5/169). ؟!
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان التَّفَكُّهُ لا يَكمُلُ حُسنُه إلَّا مع التَّنَعُّمِ مِن طِيبِ الفُرُشِ وغَيرِه؛ قال تعالى مُخبِرًا عن هؤلاء الَّذين يَخافونَ مَقامَ رَبِّهم [388] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/172). :
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ.
أي: مُتنَعِّمينَ بالاتِّكاءِ على فُرُشٍ بطائنُها الَّتي تلي جِهةَ الأرضِ: مِنَ الحَريرِ الغَليظِ اللَّامِعِ، فكيفَ بظَواهِرِها الَّتي تَلِي بَشَرَتَهم [389] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/242)، ((تفسير ابن عطية)) (5/233)، ((تفسير القرطبي)) (17/179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/267، 268)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 319). قال ابنُ عاشور: (الاتِّكاءُ: افتِعالٌ مِنَ الوَكْءِ -مَهموزِ اللَّامِ- وهو الاعتِمادُ، فصار الاتِّكاءُ اسمًا لاعتِمادِ الجالِسِ ومَرفِقُه إلى الأرضِ وجَنبُه إلى الأرضِ، وهي هيئةٌ بيْنَ الاضطِجاعِ على الجَنبِ والقُعودِ... والاتِّكاءُ: جِلسةُ أهلِ التَّرَفِ المخدومينَ؛ لأنَّها جِلسةُ راحةٍ، وعَدَمِ احتياجٍ إلى النُّهوضِ للتَّناوُلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/267، 268). وقال البقاعي: (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو ثَخينُ الدِّيباجِ، يُوجَدُ فيه مِن حُسْنِه بَريقٌ كأنَّه مِن شِدَّةِ لَمَعانِه يَطلُبُ إيجادَه، حتَّى كأنَّه نورٌ مُجَرَّدٌ!). ((نظم الدرر)) (19/183). ؟!
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المُتَّكِئُ قد يَشُقُّ عليه القيامُ لِتَناوُلِ ما يُريدُ، قال تعالى [390] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/183). :
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ.
أي: وثَمَرُ هاتَينِ الجنَّتينِ قَريبٌ مِن أهلِهما، فيَتناوَلونَه بيُسرٍ وسُهولةٍ [391] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/244)، ((تفسير ابن كثير)) (7/504)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/269)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 320). .
قال تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة: 22، 23].
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [392] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/245). ؟!
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما ذُكِرَ لا تَتِمُّ نِعمتُه إلَّا بالنِّساءِ الحِسانِ؛ قال تعالى [393] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/184). :
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ.
أي: فيهنَّ نِساءٌ قد قَصَرْنَ نَظَرَهنَّ على أزواجِهنَّ، فلا يُبصِرْنَ سِواهم، ولا يَرغَبْنَ في غَيرِهم [394] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/245)، ((تفسير البغوي)) (4/341)، ((تفسير القرطبي)) (17/180)، ((تفسير ابن كثير)) (7/504)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/269). قال ابن الجوزي: (وفي قوله: فِيهِنَّ قَولانِ: أحدُهما: أنَّها تَعودُ إلى الجَنَّتَينِ وغيرِهما ممَّا أُعِدَّ لصاحبِ هذه القِصَّةِ، قاله الزَّجَّاجُ. والثَّاني: أنَّها تعودُ إلى الفُرُشِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/214). ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قَولِه تعالى: فِيهِنَّ عائِدٌ على الفُرُشِ المتقَدِّمِ ذِكرُها: ابنُ جرير، ومكِّي، والسمعاني، وابن كثير، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/245)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7237)، ((تفسير السمعاني)) (5/335)، ((تفسير ابن كثير)) (7/504)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/269). قال مكِّي: (و«في» بمعنى «على»، والمعنى: على الفُرُشِ حورٌ قاصِراتُ الطَّرفِ). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (11/7237). وممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى الجنَّتَينِ: الزَّجَّاجُ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/103)، ((تفسير الشوكاني)) (5/170). وقيل: فِيهِنَّ أي: في الجِنانِ. وممَّن اختاره: السمرقنديُّ، والشربيني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/387)، ((تفسير الشربيني)) (4/173). وقال الزمخشري: (فِيهِنَّ في هذه الآلاءِ المعدودةِ مِن الجنَّتَينِ والعَينَينِ والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى. أو في الجنَّتَينِ؛ لاشتِمالِهما على أماكنَ وقُصورٍ ومَجالِسَ). ((تفسير الزمخشري)) (4/453). وقال ابنُ عثيمين: (فِيهِنَّ أكثَرُ العُلَماءِ يقولونَ: إنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى الجنَّتينِ، وإنَّ الجَمعَ باعتبارِ أنَّ لكُلِّ واحِدٍ مِن النَّاسِ جَنَّةً خاصَّةً به، فيكونُ فِيهِنَّ أي: في جَنَّةِ كُلِّ واحِدٍ مِمَّن هو في هاتينِ الجنَّتينِ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، وعندي أنَّ قَولَه: فِيهِنَّ يَشملُ الجنَّاتِ الأربَعَ: هاتينِ الجنَّتينِ، والجنَّتينِ اللَّتَينِ بَعْدَهما). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 320). قال ابنُ القيِّم في قولِه: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ: (المفسِّرونَ كُلُّهم على أنَّ المعنى: قَصَرْنَ طَرْفَهنَّ على أزواجِهنَّ، فلا يَطمَحْنَ إلى غَيرِهم). ((حادي الأرواح)) (ص: 220). وقيل: المعنى: أنهنَّ قد قصَرْنَ طَرْفَهنَّ على أزواجِهنَّ؛ مِن حُسنِهم وجمالِهم، وكمالِ محبَّتِهنَّ لهم، وقَصَرْنَ أيضًا طَرْفَ أزواجِهنَّ عليهنَّ؛ مِن حُسنِهنَّ وجمالِهنَّ ولَذَّةِ وِصالِهنَّ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: البِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 320). .
قال الله تبارك وتعالى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 48، 49].
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الاختِصاصُ بالشَّيءِ -ولا سيَّما المرأةِ- مِن أعظَمِ المَلَذَّاتِ؛ قال تعالى [395] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/184). :
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ.
أي: لم يُجامِعْهنَّ فيَفتَضَّ بَكارتَهنَّ قبْلَ أزواجِهنَّ أحَدٌ مِنَ الإنسِ أو الجِنِّ [396] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/246)، ((تفسير القرطبي)) (17/181)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 222)، ((تفسير ابن كثير)) (7/504)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/270). قال ابنُ القيِّم: (ظاهِرُ القُرآنِ أنَّ هؤلاء النِّسوةَ لَسْنَ مِن نِساءِ الدُّنيا، وإنَّما هُنَّ مِن الحُورِ العِينِ، وأمَّا نِساءُ الدُّنيا فقد طَمَثَهنَّ الإنسُ، ونِساءُ الجِنِّ قد طَمَثَهنَّ الجِنُّ، والآيةُ تدُلُّ على ذلك). ((حادي الأرواح)) (ص: 222). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/270). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [397] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/249). ؟!
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58).
أي: أولئك الحُورُ العِينُ مِثلُ الياقوتِ والمَرْجانِ صَفاءً ولَونًا [398] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/249)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/103)، ((تفسير ابن عطية)) (5/234)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/270)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 321). قال الزجاج: (قال أهلُ التَّفسيرِ وأهلُ اللُّغةِ: هنَّ في صفاءِ الياقوتِ، وبَياضِ المَرْجانِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/103). وقال ابن القيِّم: (قال الحَسَنُ وعامَّةُ المفَسِّرينَ: أراد صَفاءَ الياقوتِ في بَياضِ المَرْجانِ، شَبَّههنَّ في صفاءِ اللَّونِ وبَياضِه بالياقوتِ والمَرْجانِ). ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) (ص: 223). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لِكُلِّ امْرِئٍ منهم زَوجتانِ، كلُّ واحدةٍ مِنهما يُرَى مُخُّ ساقِها مِن وَراءِ لَحمِها؛ مِنَ الحُسنِ !)) [399] رواه البخاري (3246) واللَّفظُ له، ومسلم (2834). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [400] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/251). ؟!
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ألَذُّ ما أفاده الإنسانُ مِنَ النِّعمِ ما كان تسَبُّبًا منه؛ قال [401] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/186). :
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60).
أي: هل جَزاءُ مَن أحسَنَ العَمَلَ في الدُّنيا إلَّا أن يُحسَنَ إليه بالتَّنعيمِ في الآخِرةِ [402] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/252)، ((تفسير ابن عطية)) (5/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/505)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/271)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 321). ؟!
قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26].
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [403] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/253)، ((تفسير ابن كثير)) (7/505). ؟!

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ أضاف المَقامَ إلى اللهِ تعالى مِن حَيثُ هو بيْنَ يَدَيه، وفي هذه الإضافةِ تَنبيهٌ على صُعوبةِ المَوقِفِ، وتحريضٌ على الخَوفِ الَّذي هو أسرَعُ المطايا إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ [404] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/67). .
2- في قَولِه تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ هذا الخَوفُ يَستلزِمُ شَيئينِ:
الأوَّلُ: الإيمانُ بلِقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يخافُ مِن شَيءٍ إلَّا وقد تيَقَّنَه.
والثَّاني: أنْ يَتجنَّبَ محارِمَ اللهِ، وأنْ يقومَ بما أوجَبَه اللهُ خَوفًا مِن عِقابِ اللهِ تعالى؛ فعليه يَلزَمُ كلَّ إنسانٍ أنْ يُؤمِنَ بلِقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ، وقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 223] ، وأنْ يقومَ بما أوجَبَه اللهُ، وأنْ يَجتنِبَ محارِمَ اللهِ؛ فمَن خاف هذا المقامَ بيْنَ يَدَيِ اللهِ عزَّ وجلَّ فله جَنَّتانِ [405] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 318). .
3- مَن خاف اللهَ تعالى في الدُّنيا أمَّنَه في الآخِرةِ؛ قال اللهُ تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، وقال أيضًا: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [406] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/471). [النازعات: 40، 41].
4- الإِحسانُ مِن أفضَلِ مَنازِلِ العُبوديَّةِ؛ لأنَّه لُبُّ الإيمانِ ورُوحُه وكَمالُه، وجميعُ المنازِلِ مُنطَويَةٌ فيها؛ قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، وقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الإحسانُ أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه )) [407] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/465). والحديث أخرجه البخاريُّ (4777) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (9) مِن حديث أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ لطيفةٌ: أنَّه لَمَّا قال تعالى في حَقِّ المُجرِمِ: إنَّه يَطوفُ بيْنَ نارٍ وبيْنَ حَميمٍ آنٍ -وهما نَوعانِ-، ذكَرَ لِغَيرِه -وهو الخائِفُ- جنَّتينِ في مُقابَلةِ ما ذَكَر في حَقِّ المُجرِمِ، لكِنَّه ذَكَر هناك أنَّهم يَطوفونَ فيُفارِقونَ عَذابًا، ويَقَعونَ في الآخَرِ، ولم يَقُلْ هاهنا: يَطوفونَ بيْنَ الجَنَّتينِ، بل جعَلَهم اللهُ تعالى مُلوكًا، وهم فيها يُطافُ عليهم، ولا يُطافُ بهم؛ احتِرامًا لهم، وإكرامًا في حَقِّهم [408] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/371). !
2- في قَولِه تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ دَلالةٌ على أنَّ ثوابَ مُحسِني الجِنِّ الجَنَّةُ؛ وَجْهُه: أنَّ «مَنْ» مِن صِيغِ العُمومِ، فتَتناوَلُ كلَّ خائفٍ. ولأنَّه رَتَّبَ الجزاءَ المذكورَ على خَوفِ مَقامِه، فدلَّ على استِحقاقِه به [409] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 425). ، وأيضًا في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ دَلالةٌ على أنَّ مُؤمِني الجِنِّ والإنسِ يَدخُلونَ الجَنَّةَ، وأنَّه لم يَسْبِقْ مِن أحَدٍ منهم طَمْثٌ لأحدٍ مِن الحُورِ؛ فدلَّ على أنَّ مُؤمِنيهم يَتأتَّى منهم طَمْثُ الحُورِ العِينِ بعدَ الدُّخولِ، كما يَتأتَّى مِن الإنسِ، ولو كانوا ممَّن لا يَدخُلُ الجَنَّةَ لَمَا حَسُنَ الإخبارُ عنهم بذلك [410] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/38). !
3- في قَولِه تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ إلى قَولِه تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ترتيبٌ في غايةِ الحُسنِ؛ لأنَّه في أوَّلِ الأمرِ بَيَّنَ المَسكَنَ -وهو الجنَّةُ-، ثمَّ بَيَّن ما يُتنَزَّهُ به؛ فإنَّ مَن يَدخُلُ بُستانًا يتفَرَّجُ أوَّلًا، فقال: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ وفِيهِمَا عَيْنَانِ، ثمَّ ذَكَر ما يُتناوَلُ مِن المأكولِ، فقال: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ، ثمَّ ذَكَر مَوضِعَ الرَّاحةِ بعدَ التَّناوُلِ وهو الفِراشُ، ثمَّ ذَكَر ما يكونُ في الفِراشِ معه [411] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/374). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
4- قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ في قَولِه تعالى: وَلِمَنْ خَافَ وَحَّد الضَّميرَ؛ مُراعاةً لِلَفْظِ «مَنْ» إشارةً إلى قِلَّةِ الخائِفينَ [412] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/170). .
5- في قَولِه تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ أنَّه سُبحانَه ضَمِنَ الجَنَّةَ لِمَن خافَه مِن أهلِ الإيمانِ [413] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/94). .
6- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ إن قيلَ: إنَّه سُبحانَه سَوَّى بيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ في الاعتِدادِ بالإنعامِ على الثَّقَلَينِ بوَصفِهما، وإنَّما النِّعمةُ إحداهما دونَ الأُخرى!
فالجوابُ: أنَّ اللهَ تعالى مُنعِمٌ على عبادِه نِعمَتَينِ: نِعمةَ الدُّنيا، ونِعمةَ الدِّينِ، وأعظَمُها في الأُخرى، واجتِهادُ الإنسانِ رَهبةً مِمَّا يُؤلِمُه أكثَرُ مِن اجتِهادِه رَغبةً فيما يُنَعِّمُه؛ فالتَّرهيبُ زَجرٌ عن المعاصي، وبَعثٌ على الطَّاعاتِ، وهو سَبَبُ النَّفعِ الدَّائِمِ، فأيَّةُ نِعمةٍ أكبَرُ إذَنْ مِن التَّخويفِ بالضَّرَرِ المُؤَدِّي إلى أشرَفِ النِّعَمِ؟! فلمَّا جاز عندَ ذِكرِ ما أنعَمَ به علينا في الدُّنيا، وعندَ ذِكرِ ما أعَدَّه للمُطيعينَ في الأُخرى أن يَقولَ: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؛ جاز أن يقولَ عندَ ذِكرِ ما تخَوَّفَنا به مِمَّا يَصرِفُنا عن مَعصيتِه إلى طاعتِه الَّتي تَكسِبُنا نعيمَ جَنَّتِه، لأنَّ هذا أسوَقُ إلى تلك الكرامةِ مِن وَصفِ ما أُعِدَّ فيها مِنَ النِّعمةِ [414] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1240). !
7- في قَولِه تعالى: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ وفِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ وفِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ سؤالٌ: أنَّ هذه أوصافٌ للجَنَّتينِ المذكورتَينِ، فهو كالكلامِ الواحِدِ، تَقديرُه: «جنَّتانِ ذواتا أفنانٍ، وفيهما عينانِ تجريانِ، وفيهما مِن كُلِّ فاكِهةٍ زَوجانِ»، فما الفائِدةُ في فَصلِ بَعضِها عن بَعضٍ بقَولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مع أنَّه لم يَفصِلْ -حينَ ذَكَر العَذابَ- بيْنَ الصِّفاتِ، بل قال: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ [الرحمن: 35]، مع أنَّ إرسالَ النُّحاسِ غيرُ إرسالِ الشُّواظِ، وقَولُه: يَطُوفُونَ [الرحمن: 44] كلامٌ آخَرُ؟!
الجَوابُ: أنَّه جَمَع العذابَ جُملةً، وفَصلَ آياتِ الثَّوابِ؛ ترجيحًا لجانِبِ الرَّحمةِ على جانِبِ العَذابِ، وتَطييبًا للقَلبِ، وتَهييجًا للسَّامِعِ؛ فإنَّ إعادةَ ذِكرِ المحبوبِ مَحبوبٌ، وتطويلَ الكَلامِ في اللَّذَّاتِ مُستَحسَنٌ [415] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/345). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/372). .
8- في قَولِه تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَصْفُ الفُرُشِ بكَونِها مُبَطَّنةً بالإستَبرَقِ، وهذا يدُلُّ على أمْرَينِ:
أحدُهما: أنَّها فُرُشٌ عاليةٌ، لها سمْكٌ وحشْوٌ بيْنَ البِطانةِ والظِّهارةِ.
الثَّاني: أنَّ ظهائِرَها أعلى وأحسَنُ مِن بطائِنِها؛ لأنَّ بطائِنَها للأرضِ، وظهائِرَها للجَمالِ والزِّينةِ والمُباشَرةِ؛ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ في قَولِه تعالى: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ؛ قال: (هذه البطائِنُ قد أُخْبِرْتُم بها، فكيف بالظَّهائِرِ؟!) [416] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 205). وقد أخرج أثرَ ابنِ مسعودٍ ابنُ جريرٍ في ((تفسيره)) (22/243)، والحاكمُ في ((مستدركه)) (2/516). قال الحاكم: (صحيحٌ على شرطِ الشَّيخَينِ)، وقال المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/386): (إسنادُه حسَنٌ)، وحسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3746). . فقولُه: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يدُلُّ على نهايةِ شَرَفِها؛ فإنَّ ما تكونُ بَطائِنُها مِنَ الإستِبرَقِ تكونُ ظَهائِرُها خَيرًا منها، وكأنَّه شَيءٌ لا يُدرِكُه البَصَرُ مِن سُندُسٍ، وهو الدِّيباجُ الرَّقيقُ النَّاعِمُ.
وفيه وجهٌ آخَرُ مَعنويٌّ: وهو أنَّ أهلَ الدُّنيا يُظهِرونَ الزِّينةَ ولا يتمَكَّنونَ مِن أن يَجعَلوا البَطائِنَ كالظَّهائِرِ؛ لأنَّ غَرَضَهم إظهارُ الزِّينةِ، والبَطائِنُ لا تَظهَرُ، وإذا انتفى السَّبَبُ انتفى المُسَبَّبُ؛ فلمَّا لم يَحصُلْ في جَعلِ البَطائِنِ مِن الدِّيباجِ مَقصودُهم -وهو الإظهارُ- تَرَكوه، وفي الآخِرةِ الأمرُ مَبنيٌّ على الإكرامِ والتَّنعيمِ؛ فتكونُ البطائِنُ كالظَّهائِرِ، فذَكَر البَطائِنَ [417] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/373). .
9- في قَولِه تعالى: مُتَّكِئِينَ ذُكِرَ الاتِّكاءُ؛ لأنَّه حالُ الصَّحيحِ، الفارِغِ القَلبِ، المُتنَعِّمِ، بخلافِ المَريضِ والمَهمومِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/347). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/373). . وقيل: ذُكِر الاتِّكاءُ فِي الجنَّة؛ لأنَّهم لا يَنامونَ [419] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/383). .
10- في قَولِه تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ -بضَميرِ الجَمعِ- دَلالةٌ على أنَّ في كُلِّ بُستانٍ جَماعةً مِنَ النِّسوانِ [420] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/184). .
11- في قَولِه تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أنَّ الحُورَ المذكوراتِ في الجَنَّتَينِ الأُولَيَينِ والأُخرَيَينِ أوصافُهنَّ للجَميعِ؛ ولهذا تَجِدُ: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن: 66]، فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] كلُّها بلَفظِ التَّثنيةِ، لكنْ لَمَّا تَكَلَّمَ عن الحُورِ قال: فِيهِنَّ فأتَى بالجَمْعِ، فيُستفادُ منه -واللهُ أعلمُ- أنَّ هذه الأوصافَ -أوصافَ الحُورِ العِينِ- ثابتةٌ في كلٍّ مِن الجَنَّتَينِ الأُولَيَينِ والأُخرَيَينِ [421] يُنظر: ((دروس الحرم المدني)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 2). .
12- في قَولِه تعالى: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ دَلالةٌ على عِفَّتِهنَّ، وعلى حُسنِ المُؤمِنينَ في أعيُنِهنَّ، فيُحبِبْنَ أزواجَهنَّ حُبًّا يَشغَلُهنَّ عن النَّظَرِ إلى غَيرِهم، ويدُلُّ أيضًا على الحَياءِ؛ لأنَّ الطَّرْفَ حَرَكةُ الجَفْنِ، والحُوريَّةُ لا تُحَرِّكُ جَفْنَها، ولا تَرفَعُ رَأسَها [422] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/376). !
13- في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ دَلالةٌ على أنَّ الجِنَّ تَغشى كالإنسِ، وتَدخُلُ الجنَّةَ [423] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/181)، ((تفسير ابن عادل)) (18/352). .
14- في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ أنَّ الجنَّ يَتناكَحونَ، وكذا في قَولِه تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [424] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/345). [الكهف: 50] .
15- في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ أنَّه كما أنَّ كافِرِي الجِنِّ في النَّارِ فمُؤمِنُهم المُطيعُ في الجنَّةِ؛ فإنَّ في الآيةِ أنَّ في الجنَّةِ جانًّا يَطمِثونَ النِّساءَ، ومِن أصرَحِ الأدِلَّةِ في ذلك قَولُه تعالى مُخاطِبًا الجِنَّ والإنسَ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، ثمَّ قال مُبَيِّنًا دُخولَ الجِنِّ والإنسِ فيه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فلو لم يكُنْ مِنَ الآلاءِ على الجِنِّ دُخولُهم الجنَّةَ لَمَا قال فيهم وفي الإنسِ معًا: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ بعدَ قَولِه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [425] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/272). !
16- في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ دليلٌ على فَضْلِ الأبكارِ على الثَّيِّباتِ؛ إذْ لا يَصِفُهنَّ ببراءتِهنَّ مِنَ الطَّمْثِ إلَّا وقد فَضَّلَهنَّ على مَن طُمِثْنَ [426] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/210). والفضلُ هنا ليس فضْلَ الذَّواتِ، وإنَّما فضْلُ الصِّفاتِ مِن حيثُ قوَّةُ داعيةِ الرَّغبةِ، والإقبالِ على الزَّوجِ. .
17- في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ إعلامٌ بكمالِ اللَّذَّةِ بهنَّ؛ فإنَّ لَذَّةَ الرَّجُلِ بالمرأةِ الَّتي لم يَطَأْها سِواه لها فَضْلٌ على لَذَّتِه بغَيرِها، وكذلك هي أيضًا [427] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 227). .
18- في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ تقديمُ الإنسِ على الجِنِّ، والحِكمةُ هنا: هو أنَّ النَّفيَ تابعٌ لِمَا تَعْقِلُه القُلوبُ مِن الإثباتِ، فيَرِدُ النَّفيُ عليه، وعِلْمُ النُّفوسِ بطَمْثِ الإنسِ ونفْرَتُها ممَّن طَمَثَها الرِّجالُ هو المعروفُ؛ فجاء النَّفيُ على مقتضى ذلك، وكان تقديمُ الإنسُ في هذا النَّفيِ أهمَّ [428] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/67). .
19- قد يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ أنَّ ألوانَهنَّ البَياضُ والحُمرةُ على نَوعٍ مِنَ الإشرابِ، وهو في غايةِ الإعجابِ مِن الشُّفوفِ والصَّفاءِ، وهو مع ذلك ثابِتٌ لا يَعتَريه تغَيُّرٌ، وقد شَبَّهَهنَّ بهما فيما يَحسُنُ التَّشبيهُ به؛ فالياقوتُ في إملاسِه وشُفوفِه، والمَرْجانُ في إملاسِه وجَمالِ مَنظَرِه [429] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/185). .
20- في قَولِه تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ دليلٌ على أنَّ الصَّفاءَ والرِّقَّةَ مَدْحٌ في الأشخاصِ [430] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/210). .
21- هذه الآيةُ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ خِتامُ ثمانِي آياتٍ حاثَّةٍ على العَمَلِ الموصِلِ إلى الثَّمانيةِ الأبوابِ الكائِنةِ لجَنَّةِ المُقَرَّبينَ [431] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/187). .
22- قَولُ اللهِ تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ عُلِمَ منه أنَّ جَزاءَ الإساءةِ السُّوءُ؛ قال تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا [432] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/271). [النبأ: 26] .
23- في قَولِه تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ كمالُ فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هو الَّذي أحسَنَ إليك أوَّلًا بتَوفيقِك للطَّاعاتِ والإحسانِ، ثمَّ أحسَنَ إليك ثانيًا بالجَزاءِ عليه [433] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 253). . فمِن فَضْلِ اللهِ على عبْدِه أنْ يُحسِنَ إليه، ثمَّ يَعُدَّ إحسانَ العَبدِ إحسانًا [434] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 218). !
24- في قَولِه تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ أنَّ مَن أَدَّى عن غيرِه واجبًا أنَّه يَرْجِعُ عليه به [435] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/6). ، وكذلك مَن خَلَّصَ مالَ غيرِه مِن التَّلَفِ بما أدَّاه عنه يَرجِعُ به عليه، مِثلُ مَن خَلَّصَ مالًا مِن قُطَّاعٍ، أو عَسْكَرٍ ظالمٍ، أو مُتَوَلٍّ ظالمٍ -ولم يُخَلِّصْه إلَّا بما أَدَّى عنه-؛ فإنه يَرجِعُ بذلك، وهو مُحسِنٌ إليه بذلك -وإنْ لم يكُنْ مؤتمَنًا على ذلك المالِ، ولا مُكْرَهًا على الأداءِ عنه-؛ فإنَّه مُحسِنٌ إليه بذلك، وهل جزاءُ الإحسانِ إلَّا الإحسانُ [436] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/354). ؟!
25- في قَولِه تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ أنَّ الأعمالَ مَحَلُّ الثَّناءِ والقَدْحِ؛ فقولُه تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ مَحَلُّ الثَّناءِ، وقَولُه: أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام: 31] هذا قَدْحٌ؛ فالأعمالُ مَحَلُّ القَدْحِ ومَحَلُّ المَدْحِ، وإذا ثَبَتَ القَدْحُ أوِ المَدْحُ في العَمَلِ فهو يَستلزِمُ قَدْحَ العاملِ إنْ أساء، ومَدْحَه إنْ أحسَنَ، وهذا هو الأصلُ، ولاسيَّما في أمورِ الدُّنيا؛ فإنَّه ليس لنا إلَّا الظَّاهِرُ، أمَّا أمورُ الآخرةِ فعِندَ اللهِ؛ ولهذا لو أنَّنا رَأَيْنا شَخصًا يَسجُدُ لصَنَمٍ قُلْنا: كافِرٌ، مع أنه يَحتَمِلُ أنْ يكونَ جاهِلًا، فإنِ استقامَ ووَحَّدَ اللهَ ارتفَعَ عنه هذا الوَصفُ، وإلَّا فهو باقٍ [437] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 165). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ شُروعٌ في تَعدادِ الآلاءِ الفائضةِ عليهم في الآخرةِ، بعْدَ تَعدادِ ما وصَلَ إليهم في الدُّنيا مِن الآلاءِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ [438] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/183). .
- وهو انتِقالٌ مِن وصْفِ جَزاءِ المُجرمين إلى ثَوابِ المتَّقينَ، والجُملةُ عطْفٌ على جُملةِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [الرحمن: 41] إلى آخرِها [439] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/264). .
- قولُه: خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، أي: خاف مَوقِفَه الَّذي يقِفُ فيه العِبادُ للحِسابِ، وفي هذه الإضافةِ تَنبيهٌ على صُعوبةِ الموقفِ. أو خاف قِيامَ اللهِ على أحوالِه، مِن: قام عليه، إذا راقَبَه. أو خاف مَقامَ الخائفِ عندَ ربِّه للحسابِ؛ فأُضِيفَ إلى الرَّبِّ تَفخيمًا وتَهويلًا. أو خاف ربَّه، و(مَقام) مُقحَمٌ؛ للمُبالَغةِ والتَّعظيمِ [440] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/451)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير أبي حيان)) (10/67)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 546)، ((تفسير أبي السعود)) (8/184). .
- قولُه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ قيل: يَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ جِنسَينِ مِن الجنَّاتِ، وقد ذُكِرَت الجنَّاتُ في القُرآنِ بصِيغةِ الجمْعِ غيرَ مرَّةٍ، فالمرادُ جِنسانِ مِن الجنَّاتِ. ويجوزُ أنْ تكونَ التَّثنيةُ مُستعمَلةً كِنايةً عن التَّعدُّدِ، وإيثارُ صِيغةِ التَّثنيةِ هنا لمُراعاةِ الفواصلِ السَّابقةِ واللَّاحقةِ؛ فقد بُنِيَت قرائنُ السُّورة عليها، والقرينةُ ظاهرةٌ، وعلى هذا فجَميعُ ما أُجرِيَ بصِيغةِ التَّثنيةِ في شأْنِ الجنَّتينِ فمُرادٌ به الجمْعُ. وقيل: المرادُ بالجنَّتينِ جنَّةٌ واحدةٌ، وإنَّما ثَنَّى مُراعاةً للفواصلِ [441] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/452)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير أبي حيان)) (10/67)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 546)، ((تفسير أبي السعود)) (8/184)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/264، 265). .
- ولَمَّا ذَكَر سُبحانه الخوفَ ذَكَر المقامَ، وعندَ الخشيةِ ذَكَر اسمَه الكريمَ فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ؛ لأنَّهم عرَفوا عَظَمةَ اللهِ فخافوه لا لِذُلٍّ منهم، وقال: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] ؛ لأنَّه يَعرِفُ ربَّه بالعَظَمةِ فيَخشاهُ، فالخَوفُ خَشيةُ سببُها ذُلُّ الخاشي، والخشيةُ خَوفٌ سببُه عَظَمةُ المَخشيِّ [442] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/370). .
2- قولُه تعالَى: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ صِفةٌ للجنَّتينِ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ وُسِّطَ بيْنَهما؛ تنَبيهًا على أنَّ تَكذيبَ كلٍّ مِن الموصوفِ والصِّفةِ مُوجِبٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ [443] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/184). .
- وخَصَّ الأفنانَ بالذِّكرِ -وهي الأغصانُ الَّتي تَتشعَّبُ مِن فُروعِ الشَّجرةِ-؛ لأنَّها هي الَّتي تُورِقُ وتُثمِرُ، فمنها تَمتَدُّ الظِّلالُ، ومنها تُجْتنى الثِّمارُ [444] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/452)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير أبي حيان)) (10/67)، ((تفسير أبي السعود)) (8/184). . أو خَصَّ الأفنانَ بالذِّكرِ ونكَّرَها؛ لأنَّ المقصودَ هنا أفنانٌ عظيمةٌ، كثيرةُ الإيراقِ والإثمارِ والظِّلِّ، بقَرينةِ أنَّ الأفنانَ لا تَخلو عنها الجنَّاتُ، فلا يُحتاجُ إلى ذِكرِ الأفنانِ لولا قصْدُ ما في التَّنكيرِ مِن التَّعظيمِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/266). .
- وإنْ كان الجنَّتانِ اثنتَينِ لكلِّ مَن خاف مَقامَ ربِّه؛ فلكلِّ جنَّةٍ منهما عَينٌ؛ فهما عَينانِ لكلِّ مَن خاف مَقامَ ربِّه. وإنْ كان الجنَّتانِ جِنسَينِ، فالتَّثنيةُ مُستعمَلةٌ في إرادةِ الجمْعِ، أي: عُيونٌ على عدَدِ الجنَّاتِ. وكذلك إذا كان المرادُ مِن تَثنيةِ جَنَّتَانِ الكثرةَ، كان تَثنيةُ عَيْنَانِ للكَثرةِ [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/266). .
- وجاء الفصْلُ بيْنَ قولِه: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ وبيْنَ قولِه: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ بقوِله: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ -والأفنانُ عليها الفواكهُ-؛ لأنَّ الدَّاخلَ إلى البُستانِ لا يَقْدَمُ إلَّا للتَّفرُّجِ بِلَذَّةِ ما فيه بالنَّظرِ إلى خُضرةِ الشَّجرِ، وجرْيِ الأنهارِ، ثمَّ بعْدُ يَأخُذُ في اجتِناءِ الثِّمارِ للأكلِ [447] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/68). .
أو فصَلَ بيْنَ الأفنانِ وبيْنَ ذِكرِ الفاكهةِ بذِكرِ العَينينِ، معَ أنَّ الفاكهةَ بالأفنانِ أنسَبُ؛ لأنَّه لَمَّا جَرَى ذِكرُ الأفنانِ -وهي مِن جَمالِ مَنظَرِ الجنَّةِ-، أعقَبَ بما هو مِن مَحاسِنِ الجنَّاتِ -وهو عُيونُ الماءِ- جمْعًا للنَّظيرَينِ، ثمَّ أعقَبَ ذلك بما هو مِن جَمالِ المَنظَرِ -أعني: الفواكهَ في أفنانِها- ومِن مَلذَّاتِ الذَّوقِ [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/266). .
- وأمَّا تَثنيةُ زَوْجَانِ فإنَّ الزَّوجَ هنا النَّوعُ، وأنواعُ فواكهِ الجنَّةِ كثيرةٌ، وليس لكلِّ فاكهةٍ نَوعانِ: فإمَّا أنْ تكونَ التَّثنيةُ بمعْنى الجمْعِ، ويكونَ إيثارُ صِيغةِ التَّثنيةِ لمُراعاةِ الفاصِلةِ، ومِن أجْلِ المُزاوَجةِ مع نَظائرِها مِن قولِه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ إلى هنا، وإمَّا أنْ تكونَ تَثنيةُ زَوْجَانِ لكونِ الفواكهِ بَعضُها يُؤكَلُ رَطْبًا، وبَعضُها يُؤكَلُ يابِسًا؛ مِثلُ الرُّطَبِ والتَّمرِ، والعِنبِ والزَّبيبِ، وغيرِها [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/266). .
- وقولُه: مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ بَيانٌ لـ زَوْجَانِ مُقدَّمٌ على المُبيَّنِ؛ لرعْيِ الفاصِلةِ [450] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/267). .
3- قوله تعالى مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- انتصَبَ مُتَّكِئِينَ حالًا مِن (لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)، وجِيءَ بالحالِ صِيغةَ جمْعٍ باعتِبارِ معْنى صاحبِ الحالِ، وصَلاحيةِ لَفْظِه للواحدِ والمتعدِّدِ، لا باعتبارِ وُقوعِ صِلتِه بصِيغةِ الإفرادِ؛ فإنَّ ذلك اعتبارٌ بكونِ (مَن) مُفرَدةَ اللَّفظِ، والمعْنى: أُعْطوا الجِنانَ، واستقَرُّوا بها، واتَّكَؤوا على فُرُشٍ. وقيل: العاملُ مَحذوفٌ، أي: يَتنعَّمون مُتَّكئينَ. وقيل: نُصِبَ على المدْحِ [451] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/452)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير أبي حيان)) (10/68)، ((تفسير أبي السعود)) (8/185)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/267). .
- قولُه: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، البِطانةُ: هي الثَّوبُ الَّذي يُجعَلُ على الفِراشِ، والظِّهارةُ: الثَّوبُ الَّذي يُجعَلُ فوقَ البِطانةِ؛ ليَظهَرَ لرُؤيةِ الدَّاخلِ للبَيتِ، فتَكونُ الظِّهارةُ أحسَنَ مِن البطانةِ في الفِراشِ، فالمعْنى هنا: أنَّ بطائنَ فُرشِ الجنَّةِ مِن إستبرقٍ، وإذا كانت البطائنُ كذلك فما ظنُّكَ بالظَّهائرِ؟! فلا بُدَّ أنَّها أجودُ مِن ذلك، فوَصْفُ البطائنِ بذلك هنا كِنايةٌ عن نَفاسةِ وصْفِ ظَهائرِ الفُرشِ [452] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/452)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير أبي السعود)) (8/185)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/268). .
4- قولُه تعالَى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ جُمِعَ الضَّميرُ مع أنَّ قبْلَه جَنَّتَانِ؛ لرُجوعِه إلى الآلاءِ المعدودةِ في الجنَّتَينِ، أو إلى الجنَّتَينِ لكنَّ جمْعَه لاشتِمالِهما على قُصورٍ ومَنازلَ، أو إلى المنازلِ والقصورِ الَّتي دلَّ عليها ذِكرُ الجنَّتينِ، أو إلى الفُرُشِ لقُرْبِها، وتكونُ (في) بمعْنى (على)، كما في قولِه: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور: 38]، أي: عليه [453] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/453)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير أبي حيان)) (10/69)، ((تفسير أبي السعود)) (8/185)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 546، 547). .
- وضَميرُ فِيهِنَّ عائدٌ إلى فُرُشٍ -على قولٍ-، وهو سَببُ تأْخيرِ نِعَمِ أهلِ الجنَّةِ بلَذَّةِ التأنُّسِ بالنِّساءِ عمَّا في الجنَّاتِ مِن الأفنانِ والعُيونِ والفواكهِ والفُرشِ؛ ليكونَ ذِكرُ الفُرشِ مُناسبًا للانتقالِ إلى الأوانسِ [جمع آنسةٍ] في تلك الفُرشِ، وليَجِيءَ هذا الضَّميرُ مُفيدًا معنًى كثيرًا مِن لفْظٍ قليلٍ، وذلك مِن خَصائصِ التَّرتيبِ في هذا التَّركيبِ فـ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ كائنةٌ في الجنَّةِ، وكائنةٌ على الفُرشِ مع أزواجِهنَّ [454] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/269). .
- وقَاصِرَاتُ الطَّرْفِ: صِفةٌ لموصوفٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: نِساءٌ، وشاعَ المدْحُ بهذا الوصفِ في الكلامِ حتَّى نُزِّلَ مَنزلةَ الاسمِ [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/269). . وحُذِفَ الموصوفُ لِنُكتةٍ، وهي أنَّه تعالى لم يَذكُرْهنَّ باسمِ الجِنسِ -وهو النِّساءُ- بل بالصِّفاتِ، فقال: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: 22]، وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ: 33] ، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الصافات: 48] ، حُورٌ مَقْصُورَاتٌ [الرحمن: 72]، ولم يقُلْ: نِساءٌ عُرُبٌ، ولا نِساءٌ قاصِراتٌ؛ لِوَجهَينِ: إمَّا على عادةِ العُظماءِ -كبناتِ الملوكِ- إنَّما يُذكَرْنَ بأوصافِهنَّ، وإمَّا لأنهنَّ لَمَّا كَمَلْنَ كأنَّهنَّ خرَجْنَ مِن جِنسِهنَّ [456] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/350). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/375). .
- والطَّمْثُ: مَسيسُ الأُنثى البِكرِ، وعُبِّرَ عن البكارةِ بقولِه: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ إطنابًا في التَّحسينِ [457] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/270). .
- وقولُه: إِنْسٌ قَبْلَهُمْ، أي: لم يَطمِثْهُنَّ أحدٌ قبْلُ، وقولُه: وَلَا جَانٌّ تَتميمٌ واحتِراسٌ [458] التَّتميمُ: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. والاحتِراسُ: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفَعُ ذلك الاحتِمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعضُ: التَّكميلَ. والفَرقُ بيْنَ الاحتِراسِ والتَّتميمِ: أنَّ الاحتِراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التَّتميمُ فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنَهما إذَنْ هي التَّبايُنُ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و (2/333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49-51، 240 - 241). ، وهو إطنابٌ دَعا إليه أنَّ الجنَّةَ دارُ ثوابٍ لصالحِي الإنسِ والجنِّ، فلمَّا ذُكِرَ إِنْسٌ نشَأَ تَوهُّمٌ أنْ يَمسَّهُنَّ جِنٌّ؛ فدُفِعَ ذلك التَّوهُّمُ بهذا الاحتِراسِ [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/270). .
- وفي قولِه: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالإردافِ [460] الإرداف: هو أنْ يُريدَ المُتكلِّمُ معنًى، فلا يُعبِّرُ عنه بلَفظِه الموضوعِ له، بلْ بلَفظٍ هو رِدفُ المعْنى الخاصِّ وتابِعُه قَريبٌ مِن لَفظِ المعْنى الخاصِّ قُرْبَ الرَّديفِ مِن الرِّدفِ. وهو شبيهٌ بالتَّنكيتِ، إلاَّ أنَّ الإردافَ يُتْرَكُ فيه اللَّفظُ الَّذي يُدَلُّ به عادةً على المعنَى، ويُسْتَخدَمُ تعبيرٌ غيرُه؛ لتحقيقِ أغراضٍ فِكريَّةٍ ومَعانٍ لا تُؤَدَّى بالتَّعبيرِ المتروكِ. يُنظر: ((نقد الشعر)) لقدامة بن جعفر (ص: 57)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 207)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/309)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/416)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/480). ، والمعْنى في الآيةِ: فيهنَّ عَفيفاتٌ قد قَصَرَت عِفَّتُهنَّ طَرْفَهنَّ على بُعولتِهنَّ، وعُدِلَ عن المعْنى الخاصِّ إلى لَفظِ الإردافِ؛ لأنَّ كلَّ مَن عفَّ غضَّ الطَّرْفَ عن الطُّموحِ، فقد يَمتدُّ نظَرُ الإنسانِ إلى شَيءٍ وتَشتهيهِ نفْسُه ويَعِفُّ عنه مع القُدرةِ عليه لأمرٍ آخَرَ، وقصْرُ طَرْفِ المرأةِ على بَعْلِها، أو قصْرُ طَرْفِها حَياءً وخَفَرًا [461] الخَفَرُ: شِدَّةُ الحَياءِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 93). ، أو قَصْرُ عَينَيْ مَن يَنظُرُ إليهنَّ عن النَّظرِ إلى غيرِهنَّ؛ أمرٌ زائدٌ على العِفَّةِ؛ لأنَّ مَن لا يَطمَحُ طَرْفُها لغيرِ بَعْلِها، أو لا يَطمَحُ حَياءً وخَفَرًا؛ فإنَّها ضَرورةً تكونُ عَفيفةً، فكلُّ قاصرةِ الطَّرْفِ عَفيفةٌ، وليست كلُّ عفيفةٍ قاصرةَ الطَّرْفِ؛ فلذلك عُدِلَ عن اللَّفظِ الخاصِّ إلى لَفظِ الإردافِ [462] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/416). .
5- قولُه تعالَى: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ تَشبيهٌ مُرسَلٌ [463] التَّشبيهُ: هو إلحاقُ شَيءٍ بذي وصفٍ في وصْفِه. وقيل: أن تُثبِتَ للمُشَبَّهِ حُكمًا مِن أحكامِ المُشَبَّهِ به. وقد اتَّفَق الأدباءُ على شرَفِه في أنواعِ البلاغةِ، وأنَّه إذا جاء في أعقابِ المعاني أفادها كمالًا، وكساها حلَّةً وجمالًا، وهو جارٍ في كلام العربِ، بل هو أكثرُ كلامِهم. ويَنقسِمُ التَّشبيهُ عدَّةَ تقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّةٍ؛ فمنه: التَّشبيهُ المُفرَدُ. ومنه: التَّشبيهُ المُركَّبُ: وهو الَّذي يكونُ وجْهُ الشَّبَهِ فيه مُنتزَعًا مِن مُتعدِّدٍ، أو مِن أمورٍ مجموعٍ بعضُها إلى بعضٍ، كقولِه تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] ؛ فالتَّشبيهُ مُركَّبٌ مِن أحوالِ الحِمارِ. وخصَّ البَيانيُّون لفظَ «التَّمثيلِ» بالتَّشبيهِ المُركَّبِ. ومنه: التَّشبيهُ البليغُ: وهو ما كانت أداةُ التَّشبيهِ فيه محذوفةً. ويَنقسِمُ باعتبارٍ آخَرَ إلى: مؤكَّدٍ: وهو ما حُذِفت فيه الأداةُ، نحو: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] ، أي: مِثلَ مَرِّ السَّحابِ. ومُرْسَلٍ: وهو ما لم تُحذَفُ فيه الأداةُ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332 وما بعدها)، ((البرهان)) للزركشي (3/414، 422)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/146)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). مُجمَلٌ، قيل: وَجْهُ الشَّبهِ في لَونِ الحُمرةِ المَحمودةِ، أي: حُمرةُ الخدودِ، كما يُشبَّهُ الخدُّ بالورْدِ، ويجوزُ أنْ يكونَ التَّشبيهُ بهما في الصَّفاءِ واللَّمَعانِ [464] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/270)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/416). .
6- قولُه تعالَى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ استِئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما فُصِّلَ قبْلَه [465] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/185). . وهو تَذييلٌ للجُمَلِ المَبدوءةِ بقولِه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، أي: لأنَّهم أحْسَنوا فجازاهم ربُّهم بالإحسانِ [466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/271). .
- والاستِفهامُ هنا مُستعمَلٌ في النَّفيِ؛ ولذلك عُقِّبَ بالاستِثناءِ، فأفاد حصْرَ مُجازاةِ الإحسانِ في أنَّها إحسانٌ، وهذا الحصرُ إخبارٌ عن كَونِه الجزاءَ الحقَّ، ومُقتضى الحكمةِ والعدلِ، وإلَّا فقدْ يَتخلَّفُ ذلك لدى الظَّالِمينَ، قال تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [467] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/271). [الواقعة: 82] .