الفَرعُ السَّادِسُ: مَن خُيِّرَ بَينَ شَيئَينِ فتَعَذَّرَ أحَدُهما تَعَيَّن الآخَرُ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "مَن خُيِّرَ بَينَ شَيئَينِ فتَعَذَّرَ أحَدُهما تَعَيَّن الآخَرُ"
[1688] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (3/16)، ((البيان)) للعمراني (9/302)، ((المغني)) لابن قدامة (11/257)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (24/106)، ((تكملة المطيعي للمجموع)) (16/279). . وصيغةِ: "مَن خُيِّرَ بَينَ شَيئَينِ وتَعَذَّرَ عليه أحَدُهما تَعَيَّن الثَّاني"
[1689] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (9/243). . وصيغةِ: "مَن خُيِّر بَينَ أمرَينِ ففاتَ أحَدُهما تَعَيَّن الآخَرُ"
[1690] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/4972)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (2/793). . وصيغةِ: "مَن خُيِّر بَينَ شَيئَينِ ثُمَّ عَجَزَ عن أحَدِهما تَعَيَّنَ عليه لُزومُ الآخَرِ"
[1691] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/285). . وصيغةِ: "مَن خُيِّر بَينَ حَقَّينِ، إذا فاتَه أحَدُهما تَعَيَّن حَقُّه في الآخَرِ"
[1692] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/135)، ((بحر المذهب)) للروياني (12/123). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المُكَلَّفَ إذا خُيِّرَ بَينَ شَيئَينِ على سَبيلِ البَدَلِ فلَه أن يَختارَ أحَدَهما، إلَّا أنَّه إذا خُيِّرَ بَينَ شَيئَينِ ثُمَّ فاتَ أحَدُهما، أو عَجَزَ عن فِعلِه، فقد تَعَيَّنَ عليه الأخذُ بالآخَرِ؛ لأنَّه يُعَدُّ بَدَلًا عنه، وكذلك مَن خُيِّر بَينَ حَقَّينِ، إذا فاتَه أحَدُهما تَعَيَّن حَقُّه في الآخَرِ، ولا يَسقُطُ
[1693] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/135)، ((المهذب)) للشيرازي (3/197)، ((بحر المذهب)) للروياني (12/123). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (البَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ وحُكمُه حُكمُ الأصلِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ أحَدَ الخيارَينِ إذا تَعَذَّرَ فِعلُه تَعَيَّن على المُكَلَّفِ الخيارُ الآخَرُ؛ لأنَّه بَدَلٌ، والبَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ: القُرآنُ، والسُّنَّةُ، والقَواعِدُ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:- قال اللهُ تعالى:
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى خَيَّرَ الأزواجَ بَينَ أن يُمسِكوا النِّساءَ بمَعروفٍ، أو يُسَرِّحوهنَّ بإحسانٍ، فإذا تَعَذَّرَ عليه الإمساكُ بمَعروفٍ تَعَيَّنَ عليه التَّسريحُ بإحسانٍ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قد جَعَلَ لها ذلك؛ لأنَّ مَن خُيِّرَ بَينَ شَيئَينِ ثُمَّ عَجَزَ عن أحَدِهما، أو تَعَذَّرَ عليه، تَعَيَّنَ عليه لُزومُ الآخَرِ
[1694] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/285)، ((البيان)) للعمراني (9/302). .
- وقال اللهُ تعالى:
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة: 89] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَدُلُّ الآيةُ على أنَّ المُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَينَ أنواعِ كَفَّارةِ اليَمينِ (إطعامُ عَشَرةِ مَساكينَ، أو كِسوتُهم، أو تَحريرُ رَقَبةٍ)، فمَن تَعَذَّرَ عليه العِتقُ والكِسوةُ في كَفَّارةِ اليَمينِ ووَجَدَ الإطعامَ، فإنَّه يَتَعَيَّن عليه؛ لأنَّ مَن خُيِّرَ بَينَ شَيئَينِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عليه أحَدُهما، تَعَيَّنَ الآخَرُ
[1695] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (10/237)، ((البيان)) للعمراني (10/315). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((فمَن قُتِلَ فهو بخَيرِ النَّظَرَينِ: إمَّا أن يُعقَلَ، وإمَّا أن يُقادَ أهلُ القَتيلِ )) [1696] أخرجه البخاري (112) واللفظ له، ومسلم (1355). .
وَجهُ الدَّلالةِ:دَلَّ الحَديثُ على أنَّ أهلَ المَقتولِ على التَّخييرِ بَينَ أمرَينِ: الدِّيةُ، أوِ القِصاصُ، ومَن خُيِّر بَينَ حَقَّينِ، وفاتَه أحَدُهما، تَعَيَّن حَقُّه في الآخَرِ، فإذا تَعَذَّرَ القِصاصُ بعَفوِ بَعضِ الورَثةِ؛ فإنَّه يَتَعَيَّنُ للباقينَ الدِّيةُ
[1697] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/135)، ((بحر المذهب)) للروياني (12/123)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (15/470). .
3- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (البَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ وحُكمُه حُكمُ الأصلِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- المُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ بَينَ أنواعِ كَفَّارةِ اليَمينِ (الإطعامُ، أوِ الكِسوةُ، أو تَحريرُ رَقَبةٍ)، فإذا عَجَزَ عن أحَدِها تَعَيَّن الآخَرُ؛ لأنَّ مَن خُيِّر بَينَ شَيئَينِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عليه أحَدُهما تَعَيَّن الآخَرُ
[1698] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (10/237). .
2- إذا تَعَذَّرَ على الزَّوجِ الإمساكُ بمَعروفٍ، وعَجَز عن أن يوفِّيَ زَوجَتَه حَقَّها مِنَ المَهرِ والنَّفقةِ، تَعَيَّنَ عليه التَّسريحُ بإحسانٍ، فإذا لم يُفارِقْها فرَّقَ القاضي بَينَهما؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قد جَعَلَ لها ذلك؛ لأنَّ مَن خُيِّر بَينَ شَيئَينِ ثُمَّ عَجَزَ عن أحَدِهما، أو تَعَذَّرَ عليه، تَعَيَّن عليه لُزومُ الآخَرِ
[1699] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/285)، ((المبسوط)) للسرخسي (5/190)، ((البيان)) للعمراني (9/302). .
3- إذا طَلَّقَ الرَّجُلُ إحدى امرَأتَيه بغَيرِ تَعيينٍ، فماتَت إحداهما، بَطَلَ الطَّلاقُ في الميِّتةِ؛ لأنَّه مُخَيَّرٌ في التَّعيينِ، ولَم يَبقَ مَن يَصِحُّ إيقاعُ الطَّلاقِ عليه إلَّا الباقيةُ، ومَن خُيِّر بَينَ أمرَينِ ففاتَ أحَدُهما، تَعَيَّن الآخَرُ، والمَيِّتةُ لا يَصِحُّ أن يَبتَدِئَ فيها الطَّلاق، فلا يَصِحُّ أن يُعَيَّنَ فيها الطَّلاقُ كالأجنَبيَّةِ
[1700] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/4972). .
4- إذا تَعَذَّرَ القِصاصُ بعَفوِ بَعضِ الورَثةِ فإنَّه يَتَعَيَّن للباقينَ الدِّيةُ؛ لأنَّ أهلَ المَقتولِ على التَّخييرِ بَينَ أمرَينِ: الدِّيةُ، أوِ القِصاصُ، ومَن خُيِّر بَينَ حَقَّينِ، إذا فاتَه أحَدُهما تَعَيَّن حَقُّه في الآخَرِ
[1701] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/135)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (15/470). .