موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: لا يَبقى الشَّيءُ بَعدَ فواتِ المَحِلِّ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بصيغةِ: "الحَقُّ لا يَبقى بَعدَ فواتِ مَحِلِّه" [1657] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/174)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/22)، ((الكافي)) للسغناقي (1/529). . وصيغةِ: "الحَقُّ الثَّابِتُ في مَحِلٍّ مَقصورٌ عليه لا يَبقى بَعدَ فواتِه" [1658] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/146). . وصيغةِ: "فواتُ المَحِلِّ يُبطِلُ اليَمينَ" [1659] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/382). . وصيغةِ: "لا يبقى العَقدُ بَعدَ فواتِ مَحِلِّه" [1660] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (2/362). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
المَحِلُّ عِندَ الفُقَهاءِ -بكَسرِ الحاءِ- هو الوقتُ والأجَلُ، وبِفتحِ الحاءِ: المَوضِعُ والمَكانُ، كَما في تَطهيرِ مَحَلِّ النَّجاسةِ، والنَّظَرِ إلى مَحَلِّ السُّجودِ في الصَّلاةِ.
كَما يُطلَقُ المَحَلُّ على الشَّيءِ الذي يَقَعُ عليه التَّصَرُّفُ، كَمَحَلِّ العَقدِ، وهو ما يَقَعُ عليه العَقدُ وتَظهَرُ فيه أحكامُه وآثارُه ويَختَلِفُ باختِلافِ العُقودِ؛ فقد يَكونُ المَحَلُّ عَينًا ماليَّةً، كالمَبيعِ والمَوهوبِ والمَرهونِ، وقد يَكونُ المَحَلُّ عَمَلًا، كَعَمَلِ الأجيرِ والزَّارِعِ والوكيلِ، وقد يَكونُ مَنفعةً، كَمَنفعةِ المَأجورِ والمُستَعارِ، وقد يَكونُ غَيرَ ذلك.
ومَحَلُّ الشَّيءِ ما يَكونُ قابِلًا لحُكمِه، فيَتَرَتَّبُ على فَواتِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ بُطلانُه أو عَدَمُ بَقائِه، كَما إذا ماتَ مَن عليه القِصاصُ في النَّفسِ فقد تَعَذَّرَ إيجابُ استيفاءِ القِصاصِ بَعدَ مَوتِه لفواتِ المَحَلِّ [1661] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/64)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/135)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/52)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (36/233). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (البَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ وحُكمُه حُكمُ الأصلِ)؛ لأنَّ البَدَلَ لا وُجودَ له بَعدَ فواتِ مَحَلِّ الأصلِ؛ لأنَّ البَدَلَ مُتَعَلِّقٌ بالأصلِ، وحُكمُه حُكمُه، فإذا فاتَ الأصلُ بفَواتِ مَحَلِّه فاتَ بَدَلُه، كَمَن قُطِعَت يَدُه مِن فوقِ المِرفَقِ سَقَطَ غَسلُها، وسَقَطَ مَسحُها في التَّيَمُّمِ أيضًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى الظُّهرَ خَمسًا، فقيلَ له: أَزِيدَ في الصَّلاةِ؟ فقال: وما ذاكَ؟ قال: صَلَّيتَ خَمسًا، فسَجَدَ سَجدَتَينِ بَعدَ ما سَلَّمَ )) [1662] أخرجه البخاري (1226) واللفظ له، ومسلم (572). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على أنَّ مَن لم يَعلَمْ بسَهوِه إلَّا بَعدَ السَّلامِ يَسجُدُ للسَّهوِ، فإن طالَ الفصلُ فالأصَحُّ عِندَ الشَّافِعيَّةِ أنَّه يَفوتُ مَحلُّه، واحتَجَّ له بَعضُهم مِن هذا الحَديثِ بتَعقيبِ إعلامِهم لذلك بالفاءِ، وتَعقيبِه السُّجودَ أيضًا بالفاءِ [1663] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (3/96)، ((فتح المنعم)) لموسى لاشين (3/234). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا تَرَكَ التَّكبيراتِ المَسنونةَ الزَّائِدةَ في صَلاةِ العيدِ لا يَأتي بها إذا ذَكَرَها؛ لأنَّ هذا ذِكرٌ مَسنونٌ، فلا يُقضى بَعدَ فواتِ مَحَلِّه، كَدُعاءِ الاستِفتاحِ [1664] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (4/56)، ((المهذب)) للشيرازي (1/225)، ((بحر المذهب)) للروياني (2/159)، ((الكافي)) لابن قدامة (1/342). .
2- إذا هَلَكَ مالُ الزَّكاةِ بَعدَ الحَولِ وبَعدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأداءِ، تَسقُطُ عنه الزَّكاةُ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ مَحَلَّ الزَّكاةِ هو النِّصابُ، والحَقُّ لا يَبقى بَعدَ فواتِ مَحلِّه [1665] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/174)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/22). .
3- تَبطُلُ الوَكالةُ بتَصَرُّفِ الموكِّلِ بنَفسِه فيما وكَّلَ به غَيرَه؛ لفواتِ المَحلِّ، والمُرادُ بتَصَرُّفِه ما يَعجِزُ الوكيلُ عنِ الامتِثالِ به، مِثلُ أن يوكِّلَه ببَيعِ شَيءٍ ثُمَّ يَبيعَه الموكِّلُ بنَفسِه أو يُؤَجِّرَه [1666] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/289). .

انظر أيضا: