الفَرعُ الأوَّلُ: الأصلُ أنَّ الشَّيءَ إذا أُقيمَ مَقامَ غَيرِه في حُكمٍ فإنَّه لا يَقومُ مَقامَه في جَميعِ الأحكامِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ أنَّ الشَّيءَ إذا أُقيمَ مَقامَ غَيرِه في حُكمٍ فإنَّه لا يَقومُ مَقامَه في جَميعِ الأحكامِ"
[1635] يُنظر: ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 137)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 37). . وصيغةِ: "ما أقامَه الشَّارِعُ مَقامَ شَيءٍ لا يَلزَمُ إعطاؤُه حُكمَه مِن كُلِّ وَجهٍ"
[1636] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (3/414). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ البَدَلَ لا يَلزَمُ أن يَقومَ مَقامَ المُبدَلِ مِنه مُطلَقًا في جَميعِ الصُّورِ، ولا يَلزَمُ إعطاؤُه حُكمَه مِن كُلِّ وجهٍ، بَل قد يَتَخَلَّفُ ذلك في بَعضِ الصُّورِ؛ ولِذلك جاءَتِ القاعِدةُ الأُمُّ مُقَيَّدةً في بَعضِ صيَغِها كَما في صيغةِ: (للبَدَلِ حُكمُ المُبدَلِ إلَّا ما خَصَّه الدَّليلُ).
وتَقتَضي هذه القاعِدةُ أنَّ البَدَلَ والمُبدَلَ مِنه ليسا سَواءً في جَميعِ الوُجوهِ؛ إذ لو تَساوتِ الأبدالُ والمُبدَلاتُ لمَا شُرِط في الانتِقالِ إلى البَدَلِ فَقدُ المُبدَلِ
[1637] يُنظر: ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 137)، ((المنثور)) للزركشي (1/225)، ((القواعد)) للحصني (3/414)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 84). .
وهذه القاعِدةُ كالقَيدِ للقاعِدةِ الأُمِّ (البَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ وحُكمُه حُكمُ الأصلِ)، فالبَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ المُبدَلِ مِنه، إلَّا أنَّ ذلك لا يَكونُ في جَميعِ الأحكامِ، حَيثُ يُستَثنى مِن ذلك ما خَصَّه الدَّليلُ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا في سَفَرٍ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... فارتَحَلَ فسارَ غَيرَ بَعيدٍ، ثُمَّ نَزَلَ فدَعا بالوَضوءِ فتَوضَّأ، ونوديَ بالصَّلاةِ فصَلَّى بالنَّاسِ، فلَمَّا انفتَلَ مِن صَلاتِه إذا هو برجُلٍ مُعتَزِلٍ لم يُصَلِّ مَعَ القَومِ، قال: ما مَنعَك يا فُلانُ أن تُصَلِّيَ مَعَ القَومِ؟ قال: أصابَتني جَنابةٌ ولا ماءَ. قال: عليك بالصَّعيدِ؛ فإنَّه يَكفيك. ثُمَّ سارَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاشتَكى إليه النَّاسُ مِنَ العَطَشِ، فنَزَلَ فدَعا فلانًا -كان يُسَمِّيه أبو رَجاءٍ نَسيَه عَوفٌ- ودَعا عَليًّا فقال: "اذهَبا فابتَغِيا الماءَ"... ونوديَ في النَّاسِ: اسقُوا واستَقوا. فسَقى مَن شاءَ، واستَقى مَن شاءَ، وكان آخِرَ ذاكَ أن أعطى الذي أصابَته الجَنابةُ إناءً مِن ماءٍ، قال: اذهَبْ فأفرِغْه عليك )) [1638] أخرجه البخاري (344) واللفظ له، ومسلم (682). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطى الرَّجُلَ الذي أصابَته الجَنابةُ إناءً مِن ماءٍ ليَغتَسِلَ، وقال له:
((اذهَبْ فأفرِغْه عليك)) فلَم يَجعَلِ التَّيَمُّمَ يَقومُ مَقامَ الغسلِ بالماءِ في رَفعِ حَدَثِ الجَنابةِ مُطلَقًا، وإن قامَ مَقامَه في استِباحةِ الصَّلاةِ. قال القَرافيُّ: (إذا وجَدَ الجُنُبُ الماءَ بَعدَ التَّيَمُّمِ والصَّلاةِ وخُروجِ الوقتِ اغتَسَلَ للمُستَقبَلِ، وصَلاتُه تامَّةٌ)
[1639] ((الذخيرة)) (1/365). .
2- مِنَ الإجماعِ:فقد حُكيَ الإجماعُ على بَعضِ صُوَرِ القاعِدةِ، وهيَ أنَّ التَّيَمُّمَ لا يَقومُ مَقامَ الطَّهارةِ بالماءِ على سَبيلِ الإطلاقِ، وقد حَكاه ابنُ القَصَّارِ
[1640] قال: (لا خِلافَ أنَّ الجُنُبَ إذا تَيَمَّمَ وصَلَّى، ثُمَّ وجَدَ الماءَ بَعدَ ذلك فإنَّه يَغتَسِلُ واجِبًا، ولولا الجَنابةُ لم يَجِبْ عليه الغُسلُ بَعدَ التَّيَمُّمِ). ((عيون الأدلة)) (3/421). ، وابنُ عَبدِ البَرِّ
[1641] قال: (أجمَعَ العُلَماءُ أنَّ من تَيَمَّمَ بَعدَ أن طَلَبَ الماءَ فلَم يَجِدْه، ثُمَّ وجَدَ الماءَ قَبلَ دُخولِه في الصَّلاةِ، أنَّ تَيَمُّمَه باطِلٌ لا يُجزيه أن يُصَلِّيَ به، وأنَّه قد عادَ بحالِه قَبلَ التَّيَمُّمِ). ((الاستذكار)) (1/314). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- المَسحُ على الخُفِّ يَنتَهي حُكمُه بانقِضاءِ المُدَّةِ بخِلافِ الوُضوءِ
[1642] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (3/414). .
2- الخَلوةُ الصَّحيحةُ أُقيمَت مَقامَ الدُّخولِ في بَعضِ الأحكامِ، كوجوبِ العِدَّةِ مَعَ أنَّها ليسَت بدُخولٍ حَقيقةً؛ لكَونِها سَبَبًا مُفضيًا إليه، فأُقيمَت مَقامَه احتياطًا؛ إقامةً للسَّبَبِ مَقامَ المُسَبَّبِ فيما يُحتاطُ فيه
[1643] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (3/191)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/200)، ((الإنصاف)) للمرداوي (21/228). .
3- الجَدُّ يَقومُ مَقامَ الأبِ في تَزويجِ الصَّغيرِ والصَّغيرةِ والتَّصَرُّفِ في المالِ، ولا يَقومُ مَقامَه في حَقِّ استِتباعِ الصَّغيرِ والصَّغيرةِ في الإسلامِ والرِّدَّةِ
[1644] يُنظر: ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 142). .