موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: قاعِدةُ: البَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ وحُكمُه حُكمُ الأصلِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "البَدَلُ يَقومُ مَقامَ الأصلِ وحُكمُه حُكمُ الأصلِ" [1616] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (21/93). . وصيغةِ: "البَدَلُ يَقومُ مَقامَ المُبدَلِ في أحكامِه وإن لم يَكُنْ مُماثِلًا له في صِفتِه" [1617] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/354). . وصيغةِ: "البَدَلُ يَقومُ مَقامَ المُبدَلِ" [1618] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (2/279)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/387)، ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (4/1375)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/457)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/575)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/157)، ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (1/493). . وصيغةِ: "البَدَلُ يَقومُ مَقامَ المُبدَلِ عِندَ تَعَذُّرِه" [1619] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (5/287). . وصيغةِ: "للبَدَلِ حُكمُ المُبدَلِ إلَّا ما خَصَّه الدَّليلُ" [1620] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 84). . وصيغةِ: "حُكمُ البَدَلِ حُكمُ المَبدولِ مِنه" [1621] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (12/283). . وصيغةِ: "البَدَلُ يجري مَجرى تَوكيدِ المُبدَلِ وتَكريرِه وتَبيينِه" [1622] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/430). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
يَقومُ البَدَلُ في بَعضِ المَواضِعِ مَقامَ الأصلِ المُبدَلِ مِنه في سُقوطِ الواجِبِ إذا كان بَدَلًا مِن كُلِّ وجهٍ، وتَبرَأُ الذِّمَّةُ بالإتيانِ بالبَدَلِ، ويَكونُ الانتِقالُ إلى البَدَلِ لوُجودِ ضَرورةٍ أو حاجةٍ، أو لوُجودِ مَصلَحةٍ راجِحةٍ يَتَوفَّرُ فيها النَّفعُ الأكثَرُ، أوِ الصَّلاحُ الأَولى. وتَقتَضي القاعِدةُ أنَّ الشَّيءَ إذا أُقيمَ مَقامَ غَيرِه يُعتَبَرُ فيه صِفةُ الأصلِ لا صِفةُ نَفسِه، كالنَّومِ يَقومُ مَقامَ الحَدَثِ. كَما تَقتَضي أنَّ الشَّيءَ إذا أُقيمَ مَقامَ غَيرِه فالمَنظورُ نَفسُه لا الشَّيءُ الذي أُقيمَ هو مَقامَه، كالسَّفرِ لمَّا أُقيمَ مَقامَ المَشَقَّةِ صارَ المَنظورُ السَّفَرَ، ولَم يُلتَفَتْ إلى المَشَقَّةِ بَعدَ ذلك.
وتُعَدُّ هذه القاعِدةُ بابًا مِن أبوابِ التَّيسيرِ على المُكَلَّفينَ، فإنَّ اللَّهَ تعالى شَرع في كَثيرٍ مِنَ التَّكاليفِ ما يَقومُ مَقامَها، ويَكونُ بَدَلًا عنها عِندَ العَجزِ عنِ الامتِثالِ أو عِندَ حُصولِ المَشَقَّةِ مَعَ المَقدِرةِ، فتَبرَأُ ذِمَّةُ المُكَلَّفِ، ويَحصُلُ له ثَوابُ الامتِثالِ مِن غَيرِ مَشَقَّةٍ أو عنَتٍ، وقد يَكِلُ اللَّهُ تعالى ذلك إلى اختيارِ المُكَلَّفِ دونَ تَقييدٍ بعَدَمِ القُدرةِ على الإتيانِ بالأصلِ، وهنا يَكونُ التَّيسيرُ أظهَرَ [1623] يُنظر: ((الاصطلام)) للسمعاني (1/168)، ((الكافي)) للسغناقي (4/1716)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/354)، ((المنثور)) للزركشي (1/225)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/236)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 440)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/807)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/634). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قال اللهُ تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أقامَ التَّيَمُّمَ بَدَلًا عنِ الماءِ عِندَ عَدَمِ الماءِ أو عِندَ الضَّرَرِ باستِعمالِه [1624] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/41)، ((القواعد والأصول الجامعة)) للسعدي (ص: 80). .
- وقال اللهُ تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على بَيانِ حُكمِ البَدَلِ بالنِّسبةِ للمَريضِ؛ حَيثُ يَقومُ القَضاءُ مَقامَ الصِّيامِ في رَمَضانَ [1625] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/630). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي رافِعٍ، مَولى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَسلَف مِن رَجُلٍ بَكرًا [1626] قال النَّوويُّ: (أمَّا البَكرُ مِنَ الإبِلِ فبفَتحِ الباءِ، وهو الصَّغيرُ كالغُلامِ مِنَ الآدَميِّينَ، والأُنثى بَكرةً). ((شرح مسلم)) (11/ 37). ، فقَدِمَت عليه إبِلٌ مِن إبِلِ الصَّدَقةِ، فأمَرَ أبا رافِعٍ أن يَقضيَ الرَّجُلَ بَكْرَه، فرَجَعَ إليه أبو رافِعٍ فقال: لم أجِدْ فيها إلَّا خيارًا رَباعيًا [1627] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: ("الرَّباعيُ": هو الذي في السَّنةِ السَّابِعةِ؛ لأنَّه يُلقي فيها رَباعِيَتَه، وهيَ التي تَلي الثَّنايا. وهيَ أربَعُ رَباعِيَاتٍ -مُخَفَّفةَ الياءِ- والذَّكَرُ: رَباعٌ. والأُنثى: رَباعيَةٌ). ((المفهم)) (4/ 506). ، فقال: أعطِه إيَّاه، إنَّ خيارَ النَّاسِ أحسَنُهم قَضاءً )) [1628] أخرجه مسلم (1600). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أبدَلَ الرَّجُلَ المُقرِضَ جَمَلًا خَيرًا مِن جَمَلِه البَكرِ، ففيه دَلالةٌ على جَوازِ قيامِ البَدَلِ مَقامَ الأصلِ.
- وعن أبي سَعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا فليُغَيِّرْه بيَدِه، فإن لم يَستَطِعْ فبِلِسانِه، فإن لم يَستَطِعْ فبِقَلبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ )) [1629] أخرجه مسلم (49). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
بَيَّنَ الحَديثُ مَقاماتِ تَغييرِ المُنكَرِ، ودَلَّ على أنَّ التَّغييرَ للمُنكَرِ باللِّسانِ يَقومُ مَقامَ التَّغييرِ باليَدِ عِندَ عَدَمِ استِطاعةِ التَّغييرِ باليَدِ [1630] يُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) لابن العربي (2/227)، ((تحفة الناظر)) للعقباني (ص: 12). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- يَجوزُ ائتِمامُ الغاسِلِ بالإمامِ الماسِحِ لقيامِ المَسحِ مَقامَ الغَسلِ في حَقِّ تَطهيرِ الرِّجلَينِ عِندَ تَعَذُّرِ الغَسلِ؛ لكَونِه بَدَلًا عنه، والبَدَلُ عِندَ العَجزِ عنِ الأصلِ أو تَعَذُّرِ تَحصيلِه يَقومُ مَقامَ الأصلِ [1631] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/143). .
2- إذا حَضَرَ الجُمُعةَ أربَعونَ مِن أهلِ وُجوبِها، ثُمَّ تَبَدَّلوا في أثناءِ الخُطبةِ أوِ الصَّلاةِ بمِثلِهم؛ انعَقدَتِ الجُمُعةُ وتَمَّت بهم [1632] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (3/53). .
3- إبدالُ النِّصابِ مِن أموالِ الزَّكاةِ بجِنسِه أثناءَ الحَولِ، فإنَّ حَولَه يُبنى على حَولِ الأوَّلِ [1633] يُنظر: ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 441). .
4- يَجوزُ إبدالُ الهَديِ والأضاحيِّ بخَيرٍ مِنها، ويَقومُ البَدَلُ فيه مَقامَ المُبدَلِ، ويَأخُذُ حُكمَه [1634] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (3/54)، ((القواعد والأصول الجامعة)) للسعدي (ص: 80)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 441). .

انظر أيضا: