موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: الظَّاهرانِ إذا كان أحَدُهما أظهَرَ مِنَ الآخَرِ فإنَّ الأظهَرَ أَولى لفضلِ ظُهورِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "الظَّاهرانِ إذا كان أحَدُهما أظهَرَ مِنَ الآخَرِ فإنَّ الأظهَرَ أَولى لفَضلِ ظُهورِه" [1075] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 12). . و"الأصلُ أنَّ الظَّاهِرَينِ إذا تَقابَلا إلَّا أنَّ أحَدَهما أظهَرُ مِنَ الآخَرِ، فالأظهَرُ أَولى؛ لفضلِ ظُهورِه" [1076] يُنظر: ((أصول الكرخي)) مطبوع مع ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 239). . و"إن تَعارَضَ الظَّاهرانِ صُرِف أحَدُهما إلى أقرَبِ ما يَحتَمِلُه مِن ظاهرٍ آخَرَ" [1077] يُنظر: ((مصاعد النظر)) للبقاعي (1/410). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الظَّاهرُ: ما احتَمَل أمرَينِ هو في أحَدِهما أظهَرُ مِنَ الآخَرِ. ومَعنى الظَّاهِرَينِ هنا: الغالبانِ العُرفيَّانِ.
وقدِ اشتَهَرَ العَمَلُ بهذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ مُتَعَلِّقةٌ بالتَّرجيحِ بَينَ الظَّاهِرَينِ المُتَعارِضَينِ، فإنَّ المُجتَهدَ لا يَتَخَيَّرُ بَينَهما؛ لوُجودِ الشَّكِّ والاحتِمالِ عِندَ التَّعارُضِ بَينَهما؛ لأنَّ الظَّاهرَ لا يَخلو عن نَوعِ احتِمالٍ وشُبهةٍ، فيَتَعَيَّنُ أن يُقدَّمَ الأظهَرُ مِنهما ويُعمَلَ به؛ لأنَّه ترَجَّح على الآخَرِ بقوَّةِ ظُهورِه [1078] يُنظر: ((أصول الكرخي)) مطبوع مع ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 239)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/7)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (8/93)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/52)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (6/259). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ الظَّاهِرَينِ إذا تَقابَلا قُدِّمَ الأظهَرُ مِنهما على الآخَرِ؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الحُكمُ للغالبِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا ولدَتِ المَرأةُ، ثُمَّ اختَلفا، فقال الزَّوجُ: تَزَوَّجتُك مُنذُ أربَعةِ أشهُرٍ. وقالت: مُنذُ سِتَّةِ أشهُرٍ، فالقَولُ قَولُها؛ لأنَّ الظَّاهِرَ شاهِدٌ لها؛ فإنَّها تَلِدُ ظاهرًا مِن نِكاحٍ لا مِن سِفاحٍ. واعتُرِضَ بأنَّ الظَّاهِرَ شاهدٌ له أيضًا؛ لأنَّ النِّكاحَ حادِثٌ، والأصلُ في الحَوادِثِ أن تُضافَ إلى أقرَبِ الأوقاتِ. وأُجيبَ عنه بأنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحتاطُ في إثباتِه؛ فإذا تَعارَض الظَّاهرانِ فيه ترَجَّح المُثبِتُ. على أنَّ ظاهرَ حالِها يَتَأيَّدُ بظاهرِ حالِه؛ مِن حَيثُ إنَّه لا يُباشِرُ النِّكاحَ بصِفةِ الفسادِ، فإنَّ نِكاحَ الحُبلى فاسِدٌ [1079] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (4/360). .
2- إذا اختَلف الزَّوجانِ في مَتاعِ البَيتِ، فادَّعاه كُلُّ واحِدٍ مِنهما مَعَ عَدَمِ البَيِّنةِ، فقال الشَّافِعيُّ: هو مُشتَرِكٌ بَينَهما قَضاءً بمُقتَضى الظَّاهِرَينِ مَعًا؛ لعَدَمِ رُجحانِ أحَدِهما على الآخَرِ.
وقال مالِكٌ: يُقضى بَينَهما بالعادةِ؛ فما يُعرَفُ للنِّساءِ يُقضى به للزَّوجةِ، وما يُعرَفُ للرِّجالِ يُقضى به للزَّوجِ، وما يُعرَفُ للرِّجالِ والنِّساءِ مَعًا يُقضى به للزَّوجِ أيضًا؛ لأنَّ البَيتَ بَيتُه.
وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ أيضًا، فإنِ اختَلف الزَّوجانِ في مَتاعِ البَيتِ فالقَولُ لكُلِّ واحِدٍ مِنهما فيما يَصلُحُ له؛ لأنَّ الظَّاهرَ يَشهَدُ له، ولا فرقَ في ذلك بَينَ أن يَكونَ النِّكاحُ قائِمًا بَينَهما أو لم يَكُنْ قائِمًا، ومِمَّا يَصلُحُ للرَّجُلِ العِمامةُ والقَلَنْسُوةُ والسِّلاحُ والقَوسُ، فيَكونُ القَولُ فيها قَولُه مَعَ يَمينِه، ومِمَّا يَصلُحُ للمَرأةِ الخِمارُ والأساوِرُ وخَواتِمُ النِّساءِ وأمثالُ ذلك، فإنَّ القَولَ فيها قَولُها مَعَ يَمينِها، إلَّا إذا كان الزَّوجُ يَبيعُ هذه الأشياءَ فلا يَكونُ القَولُ قَولَها؛ لتَعارُضِ الظَّاهِرَينِ، وكَذا إذا كانتِ المَرأةُ تَبيعُ ما يَصلُحُ للرِّجالِ لا يَكونُ القَولُ قَولَه في ذلك.
وإذا اختَلفا فيما يَصلُحُ لهما كان القَولُ قَولَ الزَّوجِ؛ لأنَّ المَرأةَ وما في يَدِها في يَدِ الزَّوجِ، والقَولُ لصاحِبِ اليَدِ في الدَّعاوى، بخِلافِ ما يَختَصُّ بالمَرأةِ؛ لأنَّ ظاهِرَه يُقابِلُه ظاهِرٌ آخَرُ مِن جِهَتِها، فيَتَعارَضانِ، فتُرَجَّحُ بالاستِعمالِ مِن جِهَتِها. والذي يَصلُحُ لهما الفَرشُ والأمتِعةُ والأواني والعَقارُ والمَواشي [1080] يُنظر: ((المدونة)) لسحنون (2/187)، ((الأم)) للشافعي (5/103)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/312)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/38)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (6/259). .
3- إذا طَعنَ الخَصمُ في الشُّهودِ، يَسألُ القاضي عنهم في السِّرِّ والعَلانيةِ؛ لأنَّه تَقابَلَ الظَّاهرانِ، فكَما أنَّ الظَّاهرَ أنَّ الشُّهودَ لا يَكذِبونَ، فكَذا الظَّاهرُ أنَّ الخَصمَ لا يَكذِبُ في طَعنِه، فإذا كان كذلك فيَسألُ الحاكِمُ عنِ الشُّهودِ طَلبًا للتَّرجيحِ بَينَ الظَّاهِرَينِ المُتَعارِضَينِ. وهذا بخِلافِ الحُدودِ والقِصاصِ؛ لأنَّهما يُدرَآنِ بالشُّبهةِ، ويُحتاطُ لإسقاطِهما، فيَسألُ ويَستَقصي فيهما ابتِداءً مِن غَيرِ طَعنِ خَصمٍ؛ رَجاءَ أن يَسقُطا.
فالفرقُ بَينَهما: أنَّ الظَّاهرَ لا يَخلو عن نَوعِ احتِمالٍ وشُبهةٍ، والحُدودُ والقِصاصُ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ، فشَرَطنا السُّؤالَ فيها؛ احتيالًا لدَرئِها قَبلَ السُّؤالِ، فأمَّا المالُ فإنَّه يَثبُتُ مَعَ الشُّبُهاتِ، ولأنَّ الخَطَأ لو وقَعَ في الحُدودِ لا يُمكِنُ تَدارُكُه، بخِلافِ المالِ [1081] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (8/93)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/210)، ((البناية)) للعيني (9/115). .

انظر أيضا: