المَطلَبُ الأوَّلُ: قاعِدةُ التَّابِعُ تابِعٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّابِعُ تابِعٌ"
[1082] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 117)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 102)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 66)، ((العقود الدرية)) لابن عابدين (2/228)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 21)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 253). . وبِصيغةِ: "تابِعُ التَّابِعِ تابِعٌ له"
[1083] يُنظر: ((جواهر الدرر)) للتتائي (4/348)، ((الفتاوى الكبرى الفقهية)) لابن حجر الهيتمي (1/255). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ التَّابِعَ لشَيءٍ في الوُجودِ تابِعٌ لذلك الشَّيءِ في الحُكمِ، فيَسري عليه ما يَسري على مَتبوعِه؛ فالتَّابِعُ لا يَستَقِلُّ بحُكمٍ، ولا يَنفَكُّ عن مَتبوعِه، وإنَّما يَكونُ له حُكمُ المَتبوعِ.
ومَعنى: التَّابِعُ لشَيءٍ في الوُجودِ: أنَّه جُزءٌ مِن غَيرِه ويَضُرُّه التَّبعيضُ، كالجِلدِ مِنَ الحَيَوانِ، أو كالفَصِّ للخاتَمِ، فلَو أقَرَّ بخاتَمٍ دَخَلَ فَصُّه. أو كان وَصفًا فيه، كالشَّجَرِ والبِناءِ القائِمَينِ في الأرضِ، أو كان مِن ضَروراتِه، كالطَّريقِ للدَّارِ والمِفتاحِ للقُفلِ.
ومَعنى: تابِعٌ له في الحُكمِ: أي: يَكونُ له حُكمُ مَتبوعِه وإن لم يُنَصَّ عليه، كالطَّريقِ في السِّكَّةِ غَيرِ النَّافِذةِ الموصِلةِ إلى الطَّريقِ العامِّ؛ فإنَّه يَدخُلُ في بَيعِ الأرضِ تَبَعًا وإن لم يُنَصَّ عليه، بخِلافِ الطَّريقِ إذا كان في مِلكِ الغَيرِ؛ فإنَّه لا يَدخُلُ بلا تَنصيصٍ عليه، أو على الحُقوقِ والمَرافِقِ.
ومِن هنا يَتَّضِحُ أنَّ التَّبَعيَّةَ ضَربانِ:
أحَدُهما: مَعَ الاتِّصالِ بالمَتبوعِ، فيَلتَحِقُ به؛ لتَعَذُّرِ انفِرادِه عنه، كَذَكاةِ الجَنينِ بذَكاةِ أُمِّه؛ فإنَّه يَستَبيحُ بذَبحِ الأُمِّ حِلُّ الجَنينِ بشَرطِه، وكذلك تَبَعيَّةُ الحَملِ في البَيعِ، وتَبَعيَّةُ المَغرسِ للأشجارِ والأُسِّ للدَّارِ.
والثَّاني: بَعدَ الانفِصالِ، كَولَدِ المُسلِمِ، فيَتبَعُه إذا كانت أُمُّه كافِرةً، وكذلك وَلَدُ الذِّمِّيِّ يَتبَعُه إذا لم يَكُنْ بالِغًا؛ ولِهذا لو بَلَغَ جُعِلَت جِزيَتُه كَجِزيةِ أبيه -على وَجهٍ- تَبَعًا.
وكَما أنَّ التَّابِعَ يَدخُلُ في البَيعِ يَدخُلُ أيضًا في الشَّهادةِ والقَضاءِ، لكِن إذا كان دُخولُه في الشَّهادةِ والقَضاءِ تَبَعًا فإنَّما يُعتَبَرُ دُخولُه وتَبَعيَّتُه ما دامَ مَسكوتًا عنه وغَيرَ مُتَنازَعٍ فيه، أمَّا إذا لم يَكُنْ مَسكوتًا عنه بَلِ ادَّعى المُدَّعى عليه عَدَمَ دُخولِه فإنَّ الدَّعوى لا تُسمَعُ به، والشَّهادةَ تُقبَلُ عليه.
أمَّا إذا لم يَدخُلِ التَّابِعُ بالتَّبَعيَّةِ، بَل دَخَلَ قَصدًا، فإنَّه لا تُسمَعُ دَعوى عَدَمِ دُخولِه، كَما لوِ ادَّعى حانوتًا وأقامَ شاهدَينِ شَهِدا له بكُلِّ الحانوتِ، فحُكِمَ له به، فادَّعى المُدَّعى عليه كُلَّ البِناءِ أو بَعضَه: لا تُسمَعُ دَعواه، وإن لم يَشهَدا بالبِناءِ مَقصودًا؛ إذِ الحانوتُ اسمٌ للجُملةِ (أيِ الأرضِ والبِناءِ)، فصارَ المُدَّعى عليه مَحكومًا عليه في الكُلِّ مَقصودًا
[1084] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/238)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/361)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/52)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 253)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/434). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والمَعقولِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الخِطابَ في الآيةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: إذا طَلَّقتَ فطَلِّقْ للعِدَّةِ. والرَّسولُ هو المَتبوعُ، والأُمَّةُ تابِعةٌ له، والخِطابُ هنا كان أوَّلًا للمَتبوعِ ثُمَّ عُمِّمَ على التَّابِعِ؛ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ التَّابِعَ حُكمُه حُكمُ المَتبوعِ، فجاءَ نَصُّ الآيةِ أوَّلًا:
((يا أيُّها النَّبيُّ))، فهذا خِطابٌ خاصٌّ له، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ الأُمَّةَ تَتبَعُه في ذلك، فقال:
((إذا طَلَّقتُم)) [1085] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/148)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 332). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن باعَ نَخلًا قد أُبِّرَت فثَمَرَتُها للبائِعِ، إلَّا أن يَشتَرِطَ المُبتاعُ )) [1086] أخرجه البخاري (2716)، ومسلم (1543). .
وَجهُ الدَّلالةِ:دَلَّ الحَديثُ بمَفهومِه على أنَّ النَّخلَ غَيرَ المُؤَبَّرِ يَكونُ للمُشتَري، فيَكونُ بَيعُ الثَّمَرِ الذي لم يَبدُ صَلاحُه هنا تَبَعًا لبَيعِ أصلِه، مَعَ أنَّ بَيعَ الثَّمَرِ لوَحدِه قَبلَ أن يَبدوَ صَلاحُه مَنهيٌّ عنه
[1087] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/86)، ((القواعد والأصول الجامعة)) للسعدي (ص: 185). .
3- مِنَ الإجماعِ:وذلك في عِدَّةِ مَسائِلَ نُقِلَ فيها الإجماعُ، ومِن ذلك:
الإجماعُ على عَدَمِ جَوازِ بَيعِ الحَملِ دونَ الأُمِّ، كَما حَكاه ابنُ المُنذِرِ
[1088] قال: (وأجمَعوا على فسادِ بَيع المَضامينِ والملاقيحِ). ((الإجماع)) (ص: 95). ، وابنُ عبدِ البَرِّ
[1089] قال: (نَهى عنِ المَضامينِ والملاقيحِ، وأجمَعوا أنَّه بَيعٌ لا يَجوزُ). ((التمهيد)) (8/ 408). ، وغَيرُهما، مَعَ الإجماعِ على جَوازِ بَيعِ الأُمِّ الحامِلِ، كَما حَكاه الشَّافِعيُّ
[1090] قال: (والدَّلالةُ بالسُّنَّةِ في النَّخلِ قَبلَ أن يُؤَبَّرَ وبَعدَ الإبارِ في أنَّه داخِلٌ في البَيعِ مِثلُ الدَّلالةِ بالإجماعِ في جَنينِ الأَمَةِ وذاتِ الحَملِ مِنَ البَهائِمِ؛ فإنَّ النَّاسَ لم يَختَلِفوا في أنَّ كُلَّ ذاتِ حَملٍ مِن بَني آدَمَ ومِنَ البَهائِمِ بيعَت فحَملُها تَبَعٌ لها كَعُضوٍ مِنها داخِلٌ في البَيعِ بلا حِصَّةٍ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأنَّه لم يُزايِلْها). ((الأم)) (3/41-42). وغَيرُه؛ مِمَّا يَعني جَوازَ بَيعِ الحَملِ تَبَعًا لأُمِّه بالإجماعِ
[1091] يُنظر: بحث ((الشرح الجامع لقاعدة التابع تابع)) لخالد الشراري - منشور في ((مجلة جامعة الملك سعود)) (المجلد: 23/ العدد: 4/ ص: 1019-1020). .
4- مِنَ المَعقولِ:وهو أنَّ التَّابِعَ مُتَّصِلٌ بالمَتبوعِ اتِّصالَ خِلقةٍ كَما في الجَنينِ؛ إذ يَتَغَذَّى بغِذائِها، فتَكونُ ذَكاتُه كَذَكاةِ عُضوٍ مِن أعضاءِ الذَّبيحةِ، ولأنَّ إفرادَ التَّابِعِ بحُكمٍ يَشُقُّ على المُكَلَّفينَ، فيُلحَقُ التَّابِعُ بالمَتبوعِ في الحُكمِ عَمَلًا بقاعِدةِ: (المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسيرَ)
[1092] يُنظر: ((القواعد الكلية)) لمحمد شبير (ص: 302). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا باعَ شَخصٌ بُستانًا مِن آخَرَ وقَبلَ التَّسليمِ أثمَرَ شَجَرُ ذلك البُستانِ، فلا يَحِقُّ للبائِعِ أن يَجنيَ ذلك الثَّمَرَ لنَفسِه، بَل يَكونُ مَملوكًا للمُشتَري تَبَعًا؛ لأنَّ الزَّوائِدَ التي تَحصُلُ في البَيعِ بَعدَ العَقدِ وقَبلَ القَبضِ تَكونُ مَملوكةً للمُشتَري. وكذلك إذا بِيعَت بَقَرةٌ في بَطنِها جَنينٌ دَخل الجَنينُ في البَيعِ بلا نَصٍّ عليه؛ لأنَّه تَبَعٌ لها فيَتبَعُها في الحُكمِ
[1093] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/52). .
2- زَوائِدُ المَغصوبِ الحاصِلةُ في يَدِ الغاصِبِ هيَ تابِعةٌ للمَغصوبِ بالوُجودِ، فتَكونُ مِلكًا للمَغصوبِ مِنه تَبَعًا لمالِه. فلَوِ اغتَصَبَ شَخصٌ فرَسًا مِن آخَرَ، ونُتِجَت عِندَه مُهْرًا مَثَلًا: فالمُهْرُ لصاحِبِها تَبَعًا لها، ولَيسَ للمُغتَصِبِ أن يَدَّعيَه لنَفسِه
[1094] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/52)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 255). .
3- إذا رَهَنَ رَجُلٌ عِندَ شَخصٍ ناقةً ونُتِجَت عِندَ المُرتَهِنِ، فالنِّتاجُ يَكونُ رَهنًا أيضًا تَبَعًا له، ولا يَحِقُّ للرَّاهنِ أن يَأخُذَه قَبلَ فكِّ الرَّهنِ
[1095] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/52). .
4- مَن خُلِقَ له في مَحَلِّ الفَرضِ عُضوٌ زائِدٌ، كالأُصبُعِ الزَّائِدةِ في القَدَمِ أوِ اليَدِ، فإنَّه يَجِبُ غَسلُها مَعَ الأصليَّةِ؛ لأنَّها تابِعةٌ لها، فتَأخُذُ أحكامَها
[1096] يُنظر: ((الأحكام الفقهية المتعلقة بالأجزاء الزائدة والمنفصلة والمبتورة من جسم الإنسان)) لعبد الكريم العمريني، منشور في ((مجلة المجمع الفقهي)) (40/230). .