موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ السَّابعَ عَشَرَ: إذا تَعارَضَ الأصلُ والغالبُ فالغالبُ مُقدَّمٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إذا تَعارَضَ الأصلُ والغالبُ فالغالبُ مُقدَّمٌ" [1049] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (2/43). ، وبصيغةِ: "الأصلُ والغالبُ إذا تَعارَضا فالحُكمُ للغالبِ" [1050] يُنظر: ((التوضيح)) لخليل (8/19)، ((البهجة)) للتسولي (2/576). . و"الظَّنُّ المُستَفادُ مِنَ الغالِبِ راجِحٌ على الظَّنِّ المُستَفادِ مِنَ الأصلِ" [1051] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/286)، ((العدة)) لابن العطار (3/1609)، ((رياض الأفهام)) للفاكهاني (5/428)، ((الإعلام)) لابن الملقن (10/133)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/606)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (8/259). . و"إذا تَعارَض أصلٌ وظاهِرٌ فالعَمَلُ بالأصلِ" [1052] يُنظر: ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (1/125). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
المُرادُ بالأصلِ هنا: القاعِدةُ المُستَمِرَّةُ أوِ الاستِصحابُ.
والمُرادُ بالغالبِ: ما يَغلِبُ على الظَّنِّ مِن غَيرِ مُشاهَدةٍ. ويُعَبَّرُ عنه في بَعضِ صيَغِ القاعِدةِ بالظَّاهرِ، والظَّاهرُ: عِبارةٌ عَمَّا يَتَرَجَّحُ وُقوعُه، فهو مُساوٍ للغالبِ.
فإذا تَعارَضَ الأصلُ والغالبُ، فهَل يغلبُ الأصلُ على الغالبِ أوِ الغالِبُ على الأصلِ؟ فيه قَولانِ، ويَختَلفُ العُلماءُ في تَرجيحِ أحَدِهما، لا مِن جِهةِ كَونِه استِصحابًا، بَل لمُرَجِّحٍ يَنضَمُّ إليه مِن خارِج؛ حَيثُ تَختَلفُ فيه الأحوالُ وتَتَعارَضُ فيه الأدِلَّةُ.
ولجَرَيانِ القَولينِ ثَلاثةُ شُروطٍ:
1- أن لا تَطَّرِدَ العادةُ بمُخالفةِ الأصلِ، وإلَّا قُدِّمَت على الأصلِ قَطعًا؛ ولذا حُكِمَ بنَجاسةِ الماءِ الهارِبِ في الحَمَّامِ؛ لاطِّرادِ العادةِ بالبَولِ فيه.
2- أن تَكثُرَ أسبابُ الظَّاهرِ، فإن نَدَرَت لم يُنظَرْ إليه قَطعًا؛ ولذا اتَّفقَ الشَّافِعيَّةُ على الأخذِ بالوُضوءِ فيمَن تَيَقَّنَ الطَّهارةَ وغَلبَ على ظَنِّه الحَدَثُ، ولم يُجروا فيه القَولينِ فيما يَغلبُ على الظَّنِّ نَجاسَتُه، هَل يُحكَمُ بنَجاسَتِه؟ وفُرِّقَ بَينَهما بأنَّ الأسبابَ التي تَظهَرُ بها النَّجاسةُ كَثيرةٌ جِدًّا، وهيَ قَليلةٌ في الأحداثِ، ولا أثَرَ للنَّادِرِ، والتَّمَسُّكُ باستِصحابِ اليَقينِ أَولى.
3- أن لا يَكونَ مَعَ أحَدِهما ما يَعتَضِدُ به، فإن كان فالعَمَلُ بالتَّرجيحِ مُتَعَيِّنٌ، والضَّابطُ أنَّه: إذا كان الظَّاهِرُ حُجَّةً يَجِبُ قَبولُها شَرعًا كالشَّهادةِ والرِّوايةِ فهو مُقدَّمٌ على الأصلِ قَطعًا، وإن لم يَكُنْ كذلك بَل كان سَنَدُه العُرفَ أوِ القَرائِنَ أو غَلَبةَ الظَّنِّ، فهذه يَتَفاوتُ أمرُها: فتارةً يُعمَلُ بالأصلِ، وتارةً يُعمَلُ بالظَّاهرِ، وتارةً يَخرُجُ خِلافٌ. فهذه أربَعةُ أقسامٍ:
الأوَّلُ: ما قَطَعوا فيه بالظَّاهرِ، كالبَيِّنةِ؛ فإنَّ الأصلَ بَراءةُ ذِمَّةِ المَشهودِ عليه، ومَعَ ذلك يَلزَمُه المالُ المَشهودُ به قَطعًا.
والثَّاني: ما فيه خِلافٌ، والأصَحُّ تَقدُّمُ الظَّاهِرِ، كَما في اختِلافِ المُتَعاقِدَينِ في الصِّحَّةِ والفسادِ، فالقَولُ لمُدَّعي الصِّحَّةِ على الأظهَرِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ مِنَ العُقودِ الجاريةِ بَينَ المُسلمينَ الصِّحَّةُ، وإن كان الأصلُ عَدَمَها.
الثَّالثُ: ما قَطَعوا فيه بالأصلِ وإلغاءِ القَرائِنِ الظَّاهرةِ، كَما لو تَيَقَّنَ الطَّهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ أو ظَنَّه، فإنَّه يُبنى على يَقينِ الطَّهارةِ، عَمَلًا بالأصلِ. وكَما لوِ اختَلطَ الحَلالُ بالحَرامِ، وكان الحَرامُ مَغمورًا؛ فلوِ اشتَبَهَت محرمةٌ بنِسوةِ قَريةٍ كَبيرةٍ، فإنَّ له نِكاحَ مَن شاءَ مِنهنَّ؛ لأنَّ الأصلَ الإباحةُ.
الرَّابعُ: ما فيه خِلافٌ، والأصَحُّ تَقديمُ الأصلِ، كَما في ثيابِ مُدمِني النَّجاسةِ وطينِ الشَّارِعِ الذي يَغلبُ على الظَّنِّ اختِلاطُه بالنَّجاسةِ، فالأصَحُّ فيها الطَّهارةُ [1053] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/54)، ((المنثور)) للزركشي (1/311)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/103)، ((حاشية العطار)) (2/389)، ((تهذيب الفروق)) لمحمد علي حسين (4/120). وينظر أيضًا: ((القبس)) لابن العربي (ص: 294)، ((النفح الشذي)) لابن سيد الناس (4/245)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/14). .
قال القَرافيُّ: (قال بَعضُ العُلماءِ: قَولُ الفُقَهاءِ: إذا تَعارَض الأصلُ والغالِبُ يَكونُ في المَسألةِ قَولانِ. ليسَ على إطلاقِه، بَل اجتَمَعَتِ الأُمَّةُ على اعتِبارِ الأصلِ وإلغاءِ الغالبِ في دَعوى الدَّينِ ونَحوِه، فالقَولُ قَولُ المُدَّعى عليه، وإن كان الطَّالبُ أصلحَ النَّاسِ وأتقاهم للهِ تعالى، ومِنَ الغالبِ عليه أن لا يَدَّعي إلَّا مالَه، فهذا الغالبُ مُلغًى إجماعًا. واتَّفقَ النَّاسُ على تَقديمِ الغالبِ وإلغاءِ الأصلِ في البَيِّنةِ إذا شُهِدَت؛ فإنَّ الغالبَ صِدقُها، والأصلُ بَراءةُ ذِمَّةِ المَشهودِ عليه، وأُلغيَ الأصلُ هنا إجماعًا، عَكسُ الأوَّلِ. فليسَ الخِلافُ على الإطلاقِ) [1054] ((الفروق)) (4/76). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)؛ لأنَّه إذا تَعارَضَ الأصلُ والغالبُ الظَّاهِرُ فإنَّه يُؤخَذُ بالأقوى مِنهما؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ.
قال ابنُ السُّبكيِّ: (إن عارَضَ الأصلَ ظاهِرٌ: فقيل: قَولانِ دائِمًا. وقيل: غالبًا. وقيل: أصَحُّهما اعتِمادُ الأصلِ دائِمًا. وقيل: غالبًا. والتَّحقيقُ: الأخذُ بأقوى الظَّنَّينِ) [1055] ((الأشباه والنظائر)) (1/14). .
وقال ابنُ المُلقِّنِ: (التَّحقيقُ في تَعارُضِ الأصلِ والغالبِ: أنَّه إن كان الغالبُ الظَّاهِرَ اتُّبِعَ، ما لم يُعارِضْه غَيرُه، وإلَّا عُمِل بالأصلِ) [1056] ((الإعلام)) (3/142). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
ومِن ذلك: عن أبي ثَعلَبةَ الخُشَنيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إنَّا بأرضِ قَومٍ أهلِ الكِتابِ، أفنَأكُلُ في آنِيَتِهِم؟ وبأرضِ صَيدٍ، أَصِيدُ بقَوسي وبكَلْبي الذي ليس بمُعَلَّمٍ، وبكَلبي المُعَلَّمِ، فما يَصلُحُ لي؟ قال: أمَّا ما ذَكَرتَ مِن أهلِ الكِتابِ فإن وَجَدتُم غيرَها فلا تأكُلوا فيها، وإنْ لم تجِدوا فاغسِلوها وكُلوا فيها... )) [1057] أخرجه البخاري (5478) واللفظ له، ومسلم (1930). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ يَدُلُّ على أنَّ استِعمالَ أواني أهلِ الكِتابِ يَتَوقَّفُ على الغَسلِ، وقدِ اختَلف الفُقَهاءُ في ذلك بناءً على قاعِدةِ تَعارُضِ الأصلِ والغالِبِ، وذَكَروا الخِلافَ فيمَن يَتَدَيَّنُ باستِعمالِ النَّجاسةِ مِنَ المُشرِكينَ وأهلِ الكِتابِ كذلك، وإن كان قد فُرِّقَ بَينَهم وبَينَ أولئِكَ؛ لأنَّهم يَتَدَيَّنونَ باستِعمالِ الخَمرِ، أو يُكثِرونَ مُلابَسَتَها. والحَديثُ جارٍ على مُقتَضى تَرجيحِ غَلَبةِ الظَّنِّ، فإنَّ المُستَفادَ مِنَ الغالبِ راجِحٌ على الظَّنِّ المُستَفادِ مِنَ الأصلِ [1058] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/285). وينظر أيضًا: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (1/218)، ((العدة)) لابن العطار (3/1609)، ((رياض الأفهام)) للفاكهاني (5/427). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الحُكمُ للغالبِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لا يَجوزُ التَّيَمُّمُ بالتُّرابِ النَّجِسِ، والتُّرابُ النَّجِسُ هو الذي أصابَه مائِعٌ نَجِسٌ، أمَّا إذا اختَلطَ به جامِدٌ نَجِسٌ -كَأجزاءِ الرَّوثِ- فلا مُؤَثِّرَ في أجزائِه بالنَّجاسةِ، لكِن لا يَجوزُ التَّيَمُّمُ به أيضًا؛ لأنَّه إذا استَعمَله كان الواصِلُ إلى بَعضِ أجزائِه تُرابًا، وإلى بَعضِها رَوثًا، والنَّجِسُ لا يُطَهِّرُ. ولو تَيَمَّم بتُرابِ المَقابرِ التي عَمَّ فيها النَّبشُ وغَلبَ اختِلاطُ صَديدِ المَوتى به، ففي جَوازِه قَولانِ بناءً على تَقابُلِ الأصلِ والغالِبِ الظَّاهرِ [1059] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (1/232). .
2- إخبارُ الثِّقةِ بنَجاسةِ الماءِ إذا كان فقيهًا، يُقدَّمُ على أصلِ طَهارةِ الماءِ قَطعًا، وكَذا إن لم يَكُنْ فقيهًا ولكِنَّه عَيَّنَ تلك النَّجاسةَ [1060] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/315). .
3- اختِلافُ المُتَعاقِدَينِ في الصِّحَّةِ والفسادِ، فالقَولُ قَولُ مُدَّعي الصِّحَّةِ على الأظهَرِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ مِنَ العُقودِ الجاريةِ بَينَ المُسلمينَ الصِّحَّةُ [1061] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/317)، ((حاشية العطار)) (2/389). .

انظر أيضا: