موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: المَصالحُ والمَفاسِدُ في الحَياةِ إنَّما تُفهَمُ بمُقتَضى ما غَلبَ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلت هذه القاعِدةُ بصيغةِ: "المَصالحُ والمَفاسِدُ الرَّاجِعةُ إلى الدُّنيا إنَّما تُفهَمُ على مُقتَضى ما غَلبَ" [1003] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/45). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
لا يُمكِنُ للمَصالحِ الدُّنيَويَّةِ -بحَسَبِ العادةِ- أن تَتَجَرَّدَ عنِ المَفسَدةِ الدُّنيَويَّةِ، فهيَ لا تتمَحَّضُ مَصالحَ خالصةً لا تَشوبُها شائِبةُ مَفسَدةٍ مِن تَكليفٍ ومَشَقَّةٍ، تُصاحِبُ المَصلحةَ أو تَسبِقُها أو تَلحَقُها. وكذلك المَفاسِدُ قَلَّ أن تتمَحَّضَ، فما مِن مَفسَدةٍ إلَّا وتَقتَرِنُ بها أو تَلحَقُها أو تَسبِقُها مَصلحةٌ ما.
فهذه القاعِدةُ تُبَيِّنُ وَجهَ النَّظَرِ في المَصالِحِ الدُّنيَويَّةِ والمَفاسِدِ الدُّنيَويَّةِ، مِن حَيثُ مَواقِعُ وُجودِها في الأعمالِ العاديَّةِ، وتُفيدُ أنَّ المَصالحَ والمَفاسِدَ الرَّاجِعةَ إلى الدُّنيا إنَّما تُفهَمُ على مُقتَضى ما غَلبَ مِنهما، فإذا كان الغالبُ جِهةَ المَصلحةِ، فهيَ المَصلحةُ المَفهومةُ عُرفًا، وإذا غَلبَتِ الجِهةُ الأُخرى، فهيَ المَفسَدةُ المَفهومةُ عُرفًا؛ ولذلك كان الفِعلُ ذو الوجهَينِ مَنسوبًا إلى الجِهةِ الرَّاجِحةِ مِنهما، وإذا اجتَمَعَ فيه الأمرانِ على تَساوٍ، فلا يُقالُ فيه: إنَّه مَصلَحةٌ أو مَفسَدةٌ على ما جَرَت به العاداتُ في مِثلِه.
فإذا كانتِ المَصلَحةُ هيَ الغالبةَ على ما جَرَتِ العادةُ، فهيَ المَقصودةُ شَرعًا، ولتَحصيلِها وقَعَ الطَّلبُ على العِبادِ، ليَكونَ حُصولُها أتَمَّ وأقرَبَ وأَولى بنَيلِ المَقصودِ على مُقتَضى العاداتِ الجاريةِ في الدُّنيا، فإن تَبِعَها مَفسَدةٌ أو مَشَقَّةٌ، فليسَت بمَقصودةٍ في شَرعيَّةِ ذلك الفِعلِ وطَلَبِه.
وإذا كانتِ المَفسَدةُ هيَ الغالبةَ، فرَفعُها هو المَقصودُ شَرعًا، ولأجلِه وقَعَ النَّهيُ، فإن تَبِعَتها مَصلحةٌ أو لذَّةٌ فليسَت هيَ المَقصودةَ بالنَّهيِ عن ذلك الفِعلِ، بَل المَقصودُ ما غَلبَ في المَحَلِّ، وما سِوى ذلك مُلغًى في مُقتَضى النَّهيِ.
وطَريقُ العَمَلِ بذلك: غَلبةُ الظَّنِّ؛ لأنَّ المُجتَهدَ مَأمورٌ بالعَمَلِ بما غَلبَ على ظَنِّه أنَّه حُكمُ اللهِ، فيَكونُ العَمَلُ بمُقتَضى ما غَلبَ على الظَّنِّ صَوابًا [1004] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 87)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3810)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/45)، ((مقاصد الشريعة)) لابن عاشور (2/133)، ((فقه النوازل للأقليات)) لمحمد يسري (1/547). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)، ووجهُ ذلك أنَّ النَّظَرَ إلى المَصالحِ والمَفاسِدِ إنَّما يَكونُ باعتِبارِ الغالِبِ مِنهما؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، والإجماعِ، والاستِقراءِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قال اللهُ تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: 219] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّتِ الآيةُ على أولويَّةِ دَرءِ المَفسَدةِ عِندَما تَكونُ أعظَمَ رُتبةً مِنَ المَصلحةِ حالَ اجتِماعِها في الخَمرِ أو في المَيسِرِ، وهيَ تَدُلُّ على أنَّ الحُكمَ للغالبِ مِنَ المَصلحةِ أوِ المَفسَدةِ، وأنَّ المَغلوبَ في حُكمِ الاعتيادِ لا قيمةَ له في ميزانِ الشَّرعِ [1005] يُنظر: ((مقاصد الشريعة)) لابن عاشور (2/133)، ((نظرية المقاصد عند الشاطبي)) للريسوني (ص: 237)، ((فقه النوازل للأقليات)) لمحمد يسري (1/551). .
- وقال اللهُ تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة: 221] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّتِ الآيةُ على المَنعِ مِن نِكاحِ المُشرِكاتِ وإنكاحِ المُشرِك للمُؤمِنةِ؛ لِما في ذلك مِنَ المَفسَدةِ الغالبةِ في الدِّينِ، وقَطعِ اعتِبارِ المَصلحةِ المُتَرَتِّبةِ على هذا النِّكاحِ، كَما في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وقَولِه: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [1006] يُنظر: ((فقه النوازل للأقليات)) لمحمد يسري (1/551). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لها: ((يا عائِشةُ، لولا أنَّ قَومَكِ حَديثُ عَهدٍ بجاهليَّةٍ لأمَرتُ بالبَيتِ فهُدِمَ، فأدخَلتُ فيه ما أُخرِجَ مِنه، وألزَقتُه بالأرضِ، وجَعَلتُ له بابَينِ: بابًا شَرقيًّا، وبابًا غَربيًّا، فبَلغتُ به أساسَ إبراهيمَ )) [1007] أخرجه البخاري (1586). . وفي رِوايةٍ: ((ولولا أنَّ قَومَكِ حَديثٌ عَهدُهم بالجاهليَّةِ، فأخاف أن تُنكِرَ قُلوبُهم أن أُدخِلَ الجَدْرَ في البَيتِ، وأن ألصِقَ بابَه بالأرضِ )) [1008] أخرجها البخاري (1584). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَك هذا الأمرَ الذي كان عِندَه أفضَلَ الأمرَينِ؛ للمُعارِضِ الرَّاجِحِ، وهو حَداثةُ عَهدِ قُرَيشٍ بالإسلامِ؛ لِما في ذلك مِنَ التَّنفيرِ لهم، فكانتِ المَفسَدةُ راجِحةً على المَصلَحةِ [1009] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (24/196). .
- وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا قال: لئِن رَجَعنا إلى المَدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ، فبَلغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقامَ عُمَرُ فقال: يا رَسولَ اللهِ: دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْه، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أصحابَه )) [1010] أخرجه البخاري (4905) واللفظ له، ومسلم (2584). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَكُفُّ عن قَتلِ المُنافِقينَ، مَعَ كَونِه مَصلَحةً؛ لئَلَّا يَكونَ ذَريعةً إلى قَولِهم: إنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أصحابَه، وهذا يوجِبُ النُّفورَ عنِ الإسلامِ مِمَّن دَخَل فيه ومِمَّن لم يَدخُلْ، ومَفسَدةُ التَّنفيرِ أكبَرُ مِن مَفسَدةِ تَركِ قَتلِهم، ومَصلَحةُ التَّأليفِ أعظَمُ مِن مَصلَحةِ القَتلِ [1011] يُنظر: ((البحر المحيط الثجاج)) للولوي (3/67). ويُنظر أيضًا: ((الاجتهاد في مناط الحكم)) بلقاسم الزبيدي (ص: 462). .
3- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَله: القَرافيُّ [1012] قال: (القاعِدةُ المُجمَعُ عليها: إذا تَعارَضَتِ المَفسَدةُ المَرجوحةُ والمَصلحةُ الرَّاجِحةُ، اغتُفِرَتِ المَفسَدةُ في جَنبِ المَصلَحةِ، كقَطعِ اليَدِ المُتَآكِلةِ لبَقاءِ النَّفسِ، ونَظائِرُ ذلك كَثيرةٌ في الشَّرعِ. ((الذخيرة)) (1/198). .
4- مِنَ الاستِقراءِ:
وفيه يَقولُ القَرافيُّ: (استِقراءُ الشَّريعةِ يَقتَضي أنَّ ما مِن مَصلحةٍ إلَّا وفيها مَفسَدةٌ، ولو قَلَّت على البُعدِ، ولا مَفسَدةَ إلَّا وفيها مَصلَحةٌ، وإن قَلَّت على البُعدِ) [1013] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 87). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الجِهادُ مَعَ ما فيه مِن تَفويتٍ للنُّفوسِ والأطرافِ والأموالِ، إلَّا أنَّه مَعَ ذلك قُربةٌ إلى اللهِ، لكِن لا يُتَقَرَّبُ به مِن جِهةِ كَونِه إفسادًا، وإنَّما يُتَقَرَّبُ به مِن جِهةِ كَونِه وسيلةً إلى دَرءِ المَفاسِدِ وجَلبِ المَصالحِ [1014] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/132). .
2- إقامةُ القِصاصِ والحُدودِ مَعَ ما فيه مِن فواتِ الأنفُسِ والأطرافِ لمَن تُقامُ عليه، فإنَّه إنَّما يُتَقَرَّبُ به مِن جِهةِ كَونِه وسيلةً إلى دَرءِ المَفاسِدِ عنِ المُجتَمَعِ بأسرِه [1015] يُنظر: ((فقه النوازل للأقليات)) لمحمد يسري (1/548). .
3- قَطعُ الطَّبيبِ لليَدِ المُتَآكِلةِ إذا كان تَركُها خَطَرًا؛ حِفظًا للرُّوحِ إذا كان الغالبُ السَّلامةَ بقَطعِها، وإن كان إفسادًا لها؛ لِما فيه مِن تَحصيلِ المَصلحةِ الرَّاجِحةِ، وهو حِفظُ الرُّوحِ [1016] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/92)، ((روضة الطالبين)) للنووي (4/94)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/198)، ((6/2648). .

انظر أيضا: