الفرعُ الحادي عَشَرَ: ما قارَبَ الشَّيءَ يُعطى حُكمَه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما قارَبَ الشَّيءَ يُعطى حُكمَه"
[980] يُنظر: ((العدة)) لابن العطار (2/615)، ((رياض الأفهام)) للفاكهاني (1/480)، ((التوضيح)) لخليل (2/119)، ((الإعلام)) لابن الملقن (3/489)، ((فتح الباري)) لابن حجر (3/207)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (2/436). ، وبصيغةِ: "ما قارَبَ الشَّيءَ فله حُكمُه"
[981] يُنظر: ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (4/489)، ((الذخيرة)) للقرافي (5/366)، ((رياض الأفهام)) للفاكهاني (1/480). ، وبصيغةِ: "ما قارَبَ الشَّيءَ بمَنزِلتِه"
[982] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (6/618). ، وبصيغةِ الاستِفهامِ: "ما قارَبَ الشَّيءَ هَل يُعطى حُكمَه أم لا؟"
[983] يُنظر: ((التنبيهـ)) لابن بشير (1/246)، ((مناهج التحصيل)) للرجراجي (1/230)، ((الذخيرة)) للقرافي (5/230). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.المُرادُ بالقاعِدةِ أنَّ ما قارَبَ الشَّيءَ فإنَّه يَكونُ في حُكمِه، ويُفارِقُ ما بَعُدَ مِنه.
والعَمَلُ بهذه القاعِدةِ مَحَلُّ خِلافٍ بَينَ الفُقَهاءِ؛ فقدِ اختَلفوا في إعطاءِ ما قَرُبَ مِنَ الشَّيءِ حُكمَه أو بَقائِه على أصلِه؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ يُعطى حُكمَ نَفسِه لا حُكمَ غَيرِه، أمَّا إعطاؤُه ما قارَبَه فهو مَحَلُّ خِلافٍ، وجُمهورُ الفُقَهاءِ يَقولونَ بالإيجابِ، وأنَّ ما قارَبَ الشَّيءَ أُعطي حُكمَه. والأدِلَّةُ عليه وارِدةٌ؛ ولهذا الخِلافِ ورَدَتِ القاعِدةُ في بَعضِ صيَغِها بالاستِفهامِ؛ لتُبَيِّنَ أنَّ الخِلافَ فيها على قَولينِ.
وبَينَ قاعِدةِ: (ما قارَبَ الشَّيءَ أُعطي حُكمَهـ) وقاعِدةِ: (هَل العِبرةُ بالحالِ أوِ المَآلِ) عُمومٌ وخُصوصٌ:
فإنَّها أعَمُّ مِن حَيثُ أنَّا نُعطي الشَّيءَ في كُلٍّ مِن حالتَيِ الحالِ والمَآلِ حُكمَ الأمرَينِ مَعًا؛ سَواءٌ كان أحَدُهما مُقارِنًا للآخَرِ أم لا.
وأخَصُّ مِن حَيثُ إنَّ مُقارِبَ الشَّيءِ يُعطى حُكمَه وإن لم يَكُنْ مَوضوعًا لأن يَؤولَ إليه
[984] يُنظر: ((المحكم)) لابن سيده (6/389)، ((عيون الأدلة)) لابن القصار (3/508)، ((التنبيهـ)) لابن بشير (2/841)، ((روضة المستبين)) لابن بزيزة (1/165)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/98)، ((شرح المنهج المنتخب)) لابن المنجور (1/162)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/891، 967). .
وهذه القاعِدةُ تَدخُلُ في غالِبِ أبوابِ الفِقهِ؛ ولذلك قال الرَّجراجيُّ: (هذا أصلٌ مُتَداعٍ في أكثَرِ الشَّريعةِ)
[985] ((مناهج التحصيل)) (1/230). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)؛ لأنَّ ما قارَبَ الشَّيءَ الغالِبَ لا يَنفرِدُ بحُكمٍ، وإنَّما يَتبَعُ ذلك الشَّيءَ في حُكمِه؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ الكَريمُ، والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قَولُ اللهِ تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: 180] ، وقَولُه:
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 94] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الآياتِ السَّابقةَ قد جَعَلت أحكامَ المَريضِ -إذا كان مَرَضُه مَخوفًا- كَأحكامِ المَيِّتِ في عَطاياه أنَّها مُعتَبَرةٌ مِنَ الثُّلثِ، وفي أحكامٍ أُخَرَ غَيرِ ذلك مِن نِكاحِه وطَلاقِه؛ ولهذا قال تعالى:
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، وقَولُه:
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ولم يَرَوا المَوتَ، وإنَّما رَأوا دَلائِلَه؛ فدَلَّ هذا على أنَّ ما قارَب الشَّيءَ: في حُكمِه
[986] يُنظر: ((عيون الأدلة)) لابن القصار (4/358). .
- وقال اللهُ تعالى:
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هؤلاء المُخاطَبينَ كانوا قد قارَبوا الوُقوعَ في النَّارِ، فأُعطُوا حُكمَ مَن وَقَع فيها، ثُمَّ أُخرِج مِنها
[987] يُنظر: ((الإشارات الإلهية)) للطوفي (ص: 143). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعلمُها كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ كَراعٍ يَرعى حَول الحِمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألَا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ )) [988] أخرجه البخاري (52) واللفظ له، ومسلم (1599). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذا مَثَلٌ ضَربَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَن يواقِعُ الشُّبُهاتِ؛ لأنَّه يُعَرِّضُ دينَه للنَّقصِ؛ حَيثُ تُفضي به مواقَعةُ الشُّبُهاتِ إلى مواقَعةِ المَحظوراتِ بالتَّدريجِ والتَّسامُحِ، وهو الرَّاعي يَرعى حَولَ الحِمى -وهو المَرعى المَمنوعُ مِنه- فيوشِكُ، أي: يَقرُبُ أن يَرتَعَ فيه؛ لأنَّ مَن قارَب الشَّيءَ خالطَه غالبًا، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187] ؛ حَيثُ نَهى عنِ المُقارَبةِ؛ حَذَرًا مِنَ المواقَعةِ
[989] يُنظر: ((التعيين)) للطوفي (ص: 100). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- جَوازُ تَقديمِ زَكاةِ الفِطرِ قَبلَ يَومِ العيدِ بيَومٍ أو يَومَينِ؛ وذلك لأنَّ ما قارَبَ الشَّيءَ أُعطِيَ حُكمَه
[990] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/ 537- 538)، ((حاشية الروض)) المربع لابن قاسم (3/ 281). .
2- إذا لم يَكُنْ لأهلِ صَدَقةِ الفِطرِ في البَلدِ التي يَسكُنونَها قوتٌ مَعلومٌ، يَلزَمُهم في الفِطرةِ قوتُ أقرَبِ البلادِ إليهم؛ لأنَّ ما قارَبَ الشَّيءَ يُعطى حُكمَه
[991] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/ 144). .