موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ السَّادِسُ: المُتَوقَّعُ هَل يُجعَلُ كالواقِعِ؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المُتَوقَّعُ هَل يُجعَلُ كالواقِعِ؟" [870] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/98)، ((المنثور)) للزركشي (3/167)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/406)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 178). ، وبصيغةِ: "المُتَوقَّعُ كالواقِعِ أو لا؟" [871] يُنظر: ((تكملة السبكي على المجموع)) (11/499). ، وبصيغةِ: "المُتَوقَّعُ كالواقِعِ" [872] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (3/95)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/107)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/98). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
هذه القاعِدةُ تُفيدُ مَعنى اعتِبارِ المَآلِ وأثَرِه القَويِّ في بناءِ الأحكامِ والفتاوى عليه؛ حَيثُ تَدُلُّ القاعِدةُ على أنَّ المُتَوقَّعَ مِنه الإفضاءُ إلى مَآلٍ ما؛ فهَل يُعطى حُكمَ مَآلِه الذي يُؤذِنُ بقُربِ الإفضاءِ إليه؟ والجُمهورُ على أنَّ المُتَوقَّعَ كالواقِعِ.
وقد صيغَت هذه القاعِدةُ بصيغةِ الاستِفهامِ؛ للإفصاحِ عنِ الخِلافِ فيها، واختِلافِ التَّرجيحِ في الفُروعِ تَبَعًا لذلك، فقدِ اختَلف الفُقَهاءُ في المُتَوقَّعِ هَل يُجعَلُ كالواقِعِ؟ وبمَعناها اختِلافُهم في: ما قارَب الشَّيءَ هَل يُعطى حُكمَه؟ أو: المُشرِفُ على الزَّوالِ هَل هو كالزَّائِلِ؟ فهذه القَواعِدُ بجُملتِها عِباراتٌ عن مُعَبَّرٍ واحِدٍ، وهو اعتِبارُ المَآلِ [873] يُنظر: ((تكملة السبكي على المجموع)) (11/499)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/98)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/406)، ((فقه النوازل للأقليات)) لمحمد يسري (1/591)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 24). .
قال ابنُ رَجَبٍ: (مَن عَجَّل عِبادةً قَبلَ وقتِ الوُجوبِ، ثُمَّ جاءَ وقتُ الوُجوبِ وقد تَغَيَّرَ الحالُ، بحَيثُ لو فعَل المُعَجَّلَ في وقتِ الوُجوبِ لم يُجزِئْه، فهَل يُجزِئُه أو لا؟) [874] ((القواعد)) (1/74). ويُنظر فيه أيضًا: (2/474). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (الغالبُ كالمُحَقَّقِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ حُصولَ المُتَوقَّعِ غالِبٌ، فكان كالمُحَقَّقِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف: 50] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى عَبَّرَ عنِ المُستَقبَلِ بلفظِ الماضي؛ تَنبيهًا على تَحَقُّقِ وُقوعِه، وأنَّ ما هو للوُقوعِ كالواقِعِ، فجُعِل المُتَوقَّعُ الذي لا بُدَّ مِن وُقوعِه بمَنزِلةِ الواقِعِ [875] يُنظر: ((الإيضاح)) للقزويني (2/96). .
- وقال اللهُ تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ [الأعراف: 70-71] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي: قد وجَبَ وحَقَّ عليكُم، أوِ المَعنى: قد نَزَل عليكُم؛ فجُعِل المُتَوقَّعُ الذي لا بُدَّ مِن نُزولِه بمَنزِلةِ الواقِعِ [876] يُنظر: ((الكشاف)) للزمخشري (2/117)، ((تفسير الرازي)) (14/303)، ((تفسير البيضاوي)) (3/19). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((إنَّ رَجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنَّه احتَرَقَ! قال: ما لك؟ قال: أصَبتُ أهلي في رَمَضانَ. فأُتيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمِكتَلٍ يُدعى العَرَقَ، فقال: أينَ المُحتَرِقُ؟ قال: أنا. قال: تَصَدَّقْ بهذا)) [877] أخرجه البخاري (1935) واللفظ له، ومسلم (1112). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
استُدِلَّ بقَولِه: (إنَّه احتَرَقَ) على أنَّه كان عامِدًا؛ لأنَّ الهَلاكَ والاحتِراقَ مَجازٌ عنِ العِصيانِ المُؤَدِّي إلى وُقوعِ ذلك يَومَ القيامةِ، فكَأنَّه جَعَل المُتَوقَّعَ كالواقِعِ [878] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (10/443)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/164). وينظر أيضًا: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (9/110)، ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (6/408). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لها بالقاعِدةِ الأُمِّ (الغالبُ كالمُحَقَّقِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لو كان القَميصُ بحَيثُ تَظهَرُ مِنه العَورةُ عِندَ الرُّكوعِ، ولا تَظهَرُ عِندَ القيامِ، فهَل تَنعَقِدُ صَلاتُه، ثُمَّ إذا رَكَعَ تَبطُلُ، أو لا تَنعَقِدُ أصلًا؟ وجهانِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، قال بَعضُهم: ويَنبَغي القَطعُ بالصِّحَّةِ فيما إذا صَلَّى على جِنازةٍ؛ إذ لا رُكوعَ فيها [879] يُنظر: ((فتح العزيز)) للرافعي (4/ 96)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 99)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 178). .
2- لو نَوى في الرَّكعةِ الأولى الخُروجَ مِنَ الصَّلاةِ في الرَّكعةِ الثَّانيةِ، أو عَلَّقَ الخُروجَ بشَيءٍ يَحتَمِلُ حُصولُه في الصَّلاةِ، فتَبطُلُ صَلاتُه في الحالِ، على الصَّحيحِ مِن مَذهَبِ الشَّافِعيَّةِ [880] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (3/ 282-283)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 100)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 179). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
استَثنى بَعضُ العُلماءِ بَعضَ الصُّورِ التي يُحكَمُ فيها بناءً على الواقِعِ وليسَ المُتَوقَّعِ؛ مِنها:
1- مَنعُ بَيعِ الأصنامِ والصُّوَرِ المُتَّخَذةِ مِنَ الذَّهَبِ ونَحوِه؛ نَظَرًا لسَلبِ المَنفعةِ بها شَرعًا في الحالِ [881] يُنظر: ((مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي)) لابن خطيب الدهشة (1/259)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/963). .
2- مَنعُ بَيعِ السَّمَكِ إذا كان في بركةٍ كَبيرةٍ مَسدودةِ المَنافِذِ، لكِن لا يُمكِنُ أخذُه إلَّا بمُعاناةٍ وتَعَبٍ شَديدٍ؛ لتَعَذُّرِ التَّسليمِ في الحالِ، ومَشَقَّتِه في المَآلِ. والحَمَامُ في البُرجِ الكَبيرِ كالسَّمَكِ [882] يُنظر: ((مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي)) لابن خطيب الدهشة (1/260)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/963). .

انظر أيضا: