المَطلبُ الأوَّلُ: قاعِدةُ: الحُكمُ للغالبِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الحُكمُ للغالِبِ"
[883] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (4/67)، ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (3/235)، ((المنتقى)) للباجي (3/123)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (1/236)، ((التبصرة)) للخمي (8/3869)، ((المبسوط)) للسرخسي (1/77)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/141)، ((البيان)) للعمراني (3/237)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/303). ، وبصيغةِ: "الحُكمُ للغالِبِ دونَ النَّادِرِ"
[884] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (3/123)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/574). ، وبصيغةِ: "العِبرةُ في أحكامِ الشَّرعِ بالغالِبِ، والنَّادِرُ مُلحَقٌ به"
[885] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/99). ، وبصيغةِ: "الأصلُ إلحاقُ الفَردِ بالأعَمِّ الأغلَبِ دونَ النَّادِرِ"
[886] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (1/601). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.الأصلُ في المَسائِلِ الشَّرعيَّةِ أنَّ الحُكمَ فيها للغالِبِ؛ لأنَّ المَغلوبَ يَصيرُ مُستَهلَكًا في مُقابَلةِ الغالبِ، والمُستَهلَكُ في حُكمِ المَعدومِ؛ ولذلك يَكونُ الاسمُ للغالِبِ. والغالبُ الذي اعتَبَرَه الشَّرعُ هو الكَثرةُ في الوُقوعِ باعتِبارِ الزَّمَنِ، فالذي تَكونُ أزمِنةُ وُقوعِه أكثَرَ هو الغالِبُ، والذي تَكونُ أزمِنةُ وُقوعِه أقَلَّ هو النَّادِرُ القَليلِ.
قال الجَصَّاصُ: (قد تَعَلَّقُ الحُكمُ بالغالِبِ في كَثيرٍ مِنَ الأُصولِ)
[887] ((شرح مختصر الطحاوي)) (1/291). .
والمُتَرَدِّدُ بَينَ الغالِبِ والنَّادِرِ يُلحَقُ بالغالِبِ، وشَرطُ المُتَرَدِّدِ أن يَكونَ مِن جِنسِ الغالِبِ لا مُبايِنًا له، ويُشيرُ إلى ذلك هذه الصِّيغةُ للقاعِدةِ: "إنَّما يُلحَقُ النَّادِرُ بالغالبِ إذا لم يُمكِنِ التَّمييزُ بَينَه وبَينَ الغالِبِ، أمَّا إذا أمكَنَ فلا"
[888] ينظر للمعنى الإجمالي: ((المبسوط)) للسرخسي (10/196)، ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 446)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (2/933) و(8/3518). .
وتُعالِجُ هذه القاعِدةُ الغالِبَ مُقابِلَ النَّادِرِ، أمَّا ما تَقدَّمَ مِن قاعِدةِ الغالبِ كالمُحَقَّقِ فتَتَناولُ الغالِبَ فقَط وأنَّه كالمُحَقَّقِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والاستِقراءِ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قَولُ اللهِ تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] .
وَجهُ الدَّلالةِ:قيل: المُرادُ بإحكامِ آياتِه أنَّ مُعظَمَ آياتِه مُحكَمةٌ، وإن كان قد دَخَل النَّسخُ على البَعضِ، فأُجريَ الكُلُّ على البَعضِ؛ لأنَّ الحُكمَ للغالِبِ
[889] يُنظر: ((تفسير حدائق الروح والريحان)) لمحمد أمين الهرري (12/397). .
- وقال اللهُ تعالى:
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 173] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ المُرادَ أنَّ قاعِدةَ أمرِهم وأساسَه الظَّفَرُ والنُّصرةُ، وإن وَقَع في تَضاعيفِ ذلك شَوبٌ مِنَ الابتِلاءِ والمِحنةِ، والحُكمُ للغالِبِ. والمَعنى: أنَّ حِزبَنا مِنَ المُرسَلينَ وأتباعِهمُ المُؤمِنينَ لا غَيرَهم
لَهُمُ الْغَالِبُونَ على أعدائِهم في الدُّنيا والآخِرةِ، ووَصفُهم بالغَلبةِ لا يُنافيه انهزامُهم في بَعضِ المواطِنِ وغَلَبةُ الكُفَّارِ لهم؛ فإنَّ الغالِبَ في كُلِّ مَوطِنٍ هو انتِصارُهم على الأعداءِ وغَلبَتُهم لهم، فخَرَجَ الكَلامُ باعتِبارِ الغالِبِ
[890] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/211)، ((تفسير حدائق الروح والريحان)) لمحمد أمين الهرري (24/289). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ الثِّمارِ حتَّى تُزهيَ، فقيل له: وما تُزهي؟ قال: حتَّى تَحمَرَّ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرَأيتَ إذا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرةَ بمَ يَأخُذُ أحَدُكُم مالَ أخيه؟ )) [891] أخرجه البخاري (2198) واللفظ له، ومسلم (1555). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه:
((بمَ يَأخُذُ أحَدُكُم مالَ أخيه؟)) يَعني أنَّه لا يَنبَغي أن يَأخُذَ أحَدُكُم مالَ أخيه باطِلًا؛ لأنَّه لو تَلِفَ الثَّمَرُ لانتَفى في مُقابَلتِه العِوَضُ، فكَيف يَأكُلُه بغَيرِ عِوَضٍ؟ فإنَّه إذا تَلِفَتِ الثَّمَرةُ لا يَبقى للمُشتَري في مُقابَلةِ ما دَفعَه شَيءٌ، وفيه إجراءُ الحُكمِ على الغالِبِ؛ لأنَّ تَطَرُّقَ التَّلَفِ إلى ما بَدا صَلاحُه مُمكِنٌ، وعَدَمُ تَطَرُّقِه إلى ما لم يَبدُ صَلاحُه مُمكِنٌ، فنيطَ الحُكمُ بالغالِبِ في الحالينِ
[892] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/399)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/90). .
3- مِنَ الاستِقراءِ:قال الرَّازيُّ: (استِقراءُ الشَّرعِ يَدُلُّ على أنَّ النَّادِرَ في كُلِّ بابٍ مُلحَقٌ بالغالِبِ)
[893] ((المحصول)) (5/221). وينظر أيضًا: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3376)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2004). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- بَيعُ الثَّمَرِ قَبلَ بُدُوِّ الصَّلاحِ لا يَجوزُ إلَّا بشَرطِ القَطعِ؛ لاحتِمالِ عُروضِ آفةٍ، وفي ذلك إجراءُ الحُكمِ على الغالِبِ؛ لأنَّ تَطَرُّقَ التَّلَفِ إلى ما بَدا صَلاحُه، وعَدَمَ تَطَرُّقِه إلى ما لم يَبدُ صَلاحُه: مُمكِنٌ، فأُنيطَ الحُكمُ بالغالِبِ في الحالينِ
[894] يُنظر: ((منحة الباري)) لزكريا الأنصاري (4/598)، ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (3/394). .
2- لو حَلف لا يَشرَبُ ماءً فشَرِبَ ماءً تَغَيَّر بغَيرِه مِنَ السَّوائِلِ، كالعَصيرِ، فالعِبرةُ للغالِبِ؛ فإن كان الأغلَبُ بَقاءَ مائيَّتِه حَنِثَ بشُربِه
[895] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 83). وينظر أيضًا: ((الفروق)) للكرابيسي (1/276)، ((النجم الوهاج)) للدميري (1/227)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (7/383). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ التي يُعمَلُ فيها بالنَّادِرِ.
قال القَرافيُّ: (لصاحِبِ الشَّرعِ أن يَضَعَ في شَرعِه ما شاءَ، ويَستَثنيَ مِن قَواعِدِه ما شاءَ، هو أعلَمُ بمَصالحِ عِبادِه، فيَنبَغي لمَن قَصدَ إثباتَ حُكمِ الغالِبِ دونَ النَّادِرِ أن يَنظُرَ: هَل ذلك الغالِبُ مِمَّا ألغاه الشَّرعُ أم لا؟ وحينَئِذٍ يُعتَمَدُ عليه، وأمَّا مُطلَقُ الغالبِ كَيف كان في جَميعِ صوَرِه فخِلافُ الإجماعِ)
[896] ((الفروق)) (4/107). .
ومِن هذه الصُّوَرِ:
طينُ المَطَرِ الواقِعِ في الطُّرُقاتِ ومَمَرِّ الدَّوابِّ، والمَشيُ بالأحذيةِ التي يُجلَسُ بها في المَراحيضِ: الغالِبُ عليها وُجودُ النَّجاسةِ مِن حَيثُ الجُملةُ، وإن كُنَّا لا نُشاهِدُ عَينَها، والنَّادِرُ سَلامَتُها مِنها، ومَعَ ذلك ألغى الشَّارِعُ حُكمَ الغالِبِ، وأثبَتَ حُكمَ النَّادِرِ؛ تَوسِعةً ورَحمةً بالعِبادِ، فيُصَلِّي به مِن غَيرِ غَسلٍ
[897] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/105)، ((التاج والإكليل)) للمواق (1/218). .