المَطلبُ السَّابعُ: المَعروفُ عُرفًا كالمَشروطِ شَرطًا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "المَعروفُ عُرفًا كالمَشروطِ شَرطًا"
[1302] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (2/671)، ((العناية)) للبابرتي (8/428)، ((التنبيهـ)) لابن أبي العز (3/1368)، ((البناية)) للعيني (10/29)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (7/150)، ((الفواكه العديدة)) لابن المنقور (2/35)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (2/99)، ((تنبيه الولاة والحكام)) لابن عابدين (ص: 350)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 21). وقد نَصَّ ابنُ عابدينَ على اشتِهارِ هذه الصِّيغةِ للقاعِدةِ، فقال: (وقد شاعَ مِنَ القَواعِدِ المُقَرَّرةِ أنَّ المَعروفَ عُرفًا كالمَشروطِ شَرطًا). ((العقود الدرية)) (2/26). ، وصيغةِ: "المَعروفُ عُرفًا كالمَشروطِ شَرعًا"
[1303] يُنظر: ((البناية)) للعيني (13/478)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 84)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/714)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/51). ، وصيغةِ: "المَعروفُ عُرفًا كالمَشروطِ نَصًّا"
[1304] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/556). ، وصيغةِ: "المَشروطُ عُرفًا كالمَشروطِ لفظًا"
[1305] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/154)، ((الفروع)) لابن مفلح (8/262)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/529)، ((البدر التمام)) للمغربي (7/92). ، وصيغةِ: "الثَّابتُ بالعُرفِ كالثَّابتِ بالنَّصِّ"
[1306] يُنظر: ((المخارج في الحيل)) لمحمد بن الحسن (ص: 109)، ((المبسوط)) للسرخسي (9/4)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/154)، ((البناية)) للعيني (5/187)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/188). قال ابنُ عابدينَ: (الثَّابتُ بالعُرفِ كالثَّابتِ بالنَّصِّ، وهو قَريبٌ مِن قَولِ الفُقَهاءِ: المَعروفُ كالمَشروطِ، فما ثَبَتَ بالعُرفِ فكَأنَّ قائِلَه نَصَّ عليه، فيُعمَلُ بهـ). ((رسم المفتي)) (ص: 43). ، وصيغةِ: "الثَّابتُ بالعُرفِ كالثَّابتِ بالشَّرطِ"
[1307] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/173). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ ما ثَبَتَ بالعُرفِ فكَأنَّ قائِلَه قد نَصَّ عليه، فيُعمَلُ به إذا لم يَكُنْ مُصادِمًا للنَّصِّ الشَّرعيِّ بخُصوصِه، فلا يَكونُ حينَها مُعتَبرًا إذا تَعارَف النَّاسُ العَمَلَ عليه، فلو تَعارَفوا مَثَلًا على تَضمينِ المُستَعيرِ والمُستَأجِرِ ما تَلِفَ مِنَ العَينِ المُعارةِ أوِ المَأجورةِ بدونِ تَعَدٍّ مِنه ولا تَقصيرٍ، فلا يُعتَبَرُ ذلك التَّعارُفُ ولا يُراعى؛ لأنَّه مُضادٌّ للشَّارِعِ
[1308] يُنظر: ((رسم المفتي)) لابن عابدين (ص: 43)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 237)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/345). .
وقدِ استُدِلَّ بهذه القاعِدةِ على حُجِّيَّةِ العُرفِ وتَقديمِه على القياسِ عِندَ التَّعارُضِ؛ ولذا قال العَينيُّ: (العُرفُ أقوى مِنَ القياسِ؛ لأنَّ الثَّابِتَ بالعُرفِ كالثَّابتِ بالنَّصِّ)
[1309] ((البناية)) (9/238). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المَعروفَ الذي اعتادَ عليه النَّاسُ واتَّبَعوه في الحَوادِثِ يَكونُ كالمَشروطِ المَنصوصِ عليه لفظًا، فيَجِبُ تَحكيمُه والعَمَلُ به فيما بَينَهم؛ لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:قال اللهُ تعالى:
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النور: 61] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَدُلُّ الآيةُ على جَوازِ المَذكورِ فيها كُلِّه؛ لأنَّه مَبنيٌّ على ما جَرَتِ العادةُ بالإذنِ فيه، فيَكونُ المُعتادُ مِن ذلك كالمَنطوقِ به، ويَسقُطُ اعتِبارُ الإذنِ بالنُّطقِ
[1310] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/433)، ((التجريد)) للقدوري (11/6023). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن عُروةَ بنِ أبي الجَعدِ البارِقيِّ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطاه دينارًا يَشتَري له به شاةً، فاشتَرى له به شاتَينِ، فباعَ إحداهما بدينارٍ، وجاءَه بدينارٍ وشاةٍ، فدَعا له بالبَرَكةِ في بَيعِه، وكان لوِ اشتَرى التُّرابَ لرَبحَ فيه )) [1311] أخرجه البخاري (3642). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ عُروةَ باعَ بغَيرِ إذنٍ لفظيٍّ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي كان قد أذِنَ له بالشِّراءِ فقَط؛ وذلك اعتِمادًا مِن عُروةَ على الإذنِ العُرفيِّ الذي هو أقوى مِنَ اللَّفظيِّ في أكثَرِ المَواضِعِ؛ فإنَّ مِمَّا جَرى به العُرفُ أنَّ الوكيلَ مَأذونٌ له في مُخالفةِ موكِّلِه إلى خَيرٍ مِمَّا أمَرَه به
[1312] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/409)، ((الفتح الرباني)) للشوكاني (9/4368)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (30/55). .
3- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- مُطلَقُ البَيعِ يَقتَضي سَلامةَ المَبيعِ مِنَ العُيوبِ؛ لأنَّ الأصلَ هو السَّلامةُ، وهو وصفٌ مَطلوبٌ مَرغوبٌ عادةً، والمَطلوبُ عُرفًا كالمَشروطِ نَصًّا، فإذا اطَّلعَ المُشتَري على عَيبٍ في المَبيعِ فإن شاءَ أخَذَه بجَميعِ الثَّمَنِ، وإن شاءَ رَدَّه؛ لأنَّه لم يَرضَ به
[1313] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (2/18). .
2- إذا عَمِل شَخصٌ لآخَرَ شَيئًا ولم يَتَّفِقا على الأُجرةِ: كَما لو دَفعَ أحَدٌ ثَوبَه إلى خَيَّاطٍ ليَخيطَه له، أو إلى غَسَّالٍ، أو دَفعَ طَعامَه إلى طَبَّاخٍ وغَيرِهم مِمَّن يَعمَلونَ بالأُجرةِ، ولم يَشرِطْ لهم أُجرةً: فيَلزَمُه أُجرةُ المِثلِ؛ لأنَّ هذا كالمَشروطِ، والشَّرطُ العُرفيُّ كاللَّفظيِّ سَواءً
[1314] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/165)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 84)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/51). .
3- ما يُرسِلُه الشَّخصُ إلى غَيرِه في الأعراسِ ونَحوِها هَل يَكونُ حُكمُه حُكمَ القَرضِ، فيَلزَمُه الوفاءُ به أم لا؟ إن كان العُرفُ بأنَّهم يَدفعونَه على وَجهِ البَدَلِ يَلزَمُ الوفاءُ به، فإن كان مِثليًّا فبمِثلِه، وإن كان قِيميًّا فبقيمَتِه. وإن كان العُرفُ خِلافَ ذلك بأن كانوا يَدفعونَه على وَجهِ الهبةِ، ولا يَنظُرونَ في ذلك إلى إعطاءِ البَدَلِ فحُكمُه حُكمُ الهبةِ في سائِرِ أحكامِه، فلا رُجوعَ فيه بَعدَ الهَلاكِ أوِ الاستِهلاكِ، والأصلُ فيه أنَّ المَعروفَ عُرفًا كالمَشروطِ شَرطًا
[1315] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (5/696). .