موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ العاشِرُ: مَن أتلَف شَيئًا لدَفعِ أذاه له لم يَضمَنْه، وإن أتلَفَه لدَفعِ أذاه به ضَمِنَه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "مَن أتلَف شَيئًا لدَفعِ أذاه له لم يَضمَنْه، وإن أتلَفَه لدَفعِ أذاه به ضَمِنَه" [1079] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/194)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 87)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/849)، ((بغية المقتصد)) للوائلي (14/8554)، ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) لحمد الهاجري (ص: 632)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/418). . وصيغةِ: "مَن أتلَفَ شَيئًا ليَنتَفِعَ به ضَمِنَه، وإن كان لمَضَرَّتِه فلا ضَمانَ عليه" [1080] يُنظر: ((شرح القواعد السعدية)) لعبدالمحسن الزامل (ص: 210). ، وصيغةِ: "مَن فعَل شَيئًا دافِعًا به عن نَفسِه فيما له فِعلُه، أنَّه لا يَضمَنُ ما تَلِفَ به" [1081] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (5/195). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تَتَعَلَّقُ هذه القاعِدةُ بأمرَينِ: الأوَّلُ دَفعُ أذى الشَّيءِ الحاصِلِ بسَبَبِه التَّلَفُ، والثَّاني: دَفعُ أذى نَفسِه به، والفَرقُ بَينَهما: أنَّ الشَّيءَ المُتلَفَ في الأمرِ الأوَّلِ هو الذي حَصَل مِنه الأذى بمُتلِفِه، فلا يَضمَنُ مُتلِفُه. أمَّا في الأمرِ الثَّاني: فالشَّيءُ المُتلَفُ لم يَحصُلْ مِنه أذًى لمُتلِفِه، ولكِنَّه أتلَفَه ليَدفَعَ به أذًى كان مَوجودًا في نَفسِه، أي: أتلَفَه لحاجةٍ أو مَصلحةٍ تَعودُ عليه، فيَضمَنُ.
فالأمرُ الأوَّلُ، مِثلُ: جَمَلٍ صالَ عليك فدَفعتَه حِفاظًا على نَفسِك، والأمرُ الثَّاني: كَأن تَنحَرَ بَعيرَ غَيرِك لتَأكُلَ مِنه، فتَدفَعَ المَوتَ عن نَفسِك. فما يُتلِفُه الإنسانُ دِفاعًا عن نَفسِه لا ضَمانَ عليه، وإن أتلفَه لمَصلحةِ نَفسِه ودَفْعِ الأذى عنها فإنَّه يَضمَنُه [1082] يُنظر: ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 87)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/849)، ((بغية المقتصد)) للوائلي (14/8554). .
وهذه القاعِدةُ مُقَيِّدةٌ لقاعِدةِ (الجَوازُ الشَّرعيُّ يُنافي الضَّمانَ) فإنَّها تَضُمُّ شِقَّينِ: الأوَّلُ يُطابقُ القاعِدةَ المَذكورةَ، والثَّاني يُقَيِّدُها؛ لأنَّ الشِّقَّ الأوَّلَ: (مَن أتلَفَ شَيئًا لدَفعِ أذاه له لم يَضمَنْهـ) مُطابقٌ للقاعِدةِ مِن حَيثُ عَدَمُ ترَتُّبِ الضَّمانِ على ما يَجوزُ فِعلُه شَرعًا؛ تَيسيرًا مِنَ اللهِ تعالى على عِبادِه، وأمَّا: (وإن أتلفَه لدَفعِ أذاه به ضَمِنَهـ) فهو استِثناءٌ مِنَ القاعِدةِ وقَيدٌ لها؛ وذلك لأنَّ المُكَلَّفَ هنا قد دَفعَ به عن نَفسِه مَضَرَّةً مِن غَيرِ جِهةِ المُتلِفِ، فضَمِنَه [1083] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/418، 424). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الضَّمانَ لم يَجِبْ في الشِّقِّ الأوَّلِ مِنَ القاعِدةِ؛ حَيثُ إنَّ الشَّيءَ المُتلَفَ قد حَصَل مِنه ضَرَرٌ، والضَّرَرُ يُزالُ. أمَّا الشِّقُّ الثَّاني فيَجِبُ فيه الضَّمانُ؛ حَيثُ إنَّ المُتلِفَ قد أتلَفَ الشَّيءَ ليَدفعَ به ضَرَرًا عن نَفسِه، والإتلافُ ضَرَرٌ تَجِبُ إزالتُه، وإزالتُه هنا بالضَّمانِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فنَزَعَ يَدَه مِن فمِه، فوقَعَت ثَنيَّتاه، فاختَصَموا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((يَعَضُّ أحَدُكُم أخاه كَما يَعَضُّ الفَحلُ! لا ديةَ لك )) [1084] أخرجه البخاري (6892) واللفظ له، ومسلم (1673). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على جَوازِ دَفعِ المُعتَدي، وأنَّه إذا لم يُمكِنِ الخَلاصُ مِنه إلَّا بجِنايةٍ على نَفسِه، أو على بَعضِ أعضائِه، ففعَل به ذلك، كان هَدرًا [1085] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/223)، ((كوثر المعاني)) لمحمد الخضر الشنقيطي (14/173)، ((ذخيرة العقبى)) للأثيوبي (36/76). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ إن جاءَ رَجُلٌ يُريدُ أخذَ مالي؟ قال: فلا تُعطِه مالَك، قال: أرَأيتَ إن قاتَلَني؟ قال: قاتِلْه، قال: أرَأيتَ إن قَتَلَني؟ قال: فأنتَ شَهيدٌ، قال: أرَأيتَ إن قَتَلتُه؟ قال: هو في النَّارِ )) [1086] أخرجه مسلم (140). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَ الرَّجُلَ أن يُقاتِلَ مَن صال عليه لأخذِ مالِه، حتَّى وإن قَتَلَه، ولم يَذكُرْ أنَّ عليه ضَمانَ ذلك، بَل يَكونُ الصَّائِلُ في النَّارِ [1087] يُنظر: ((الفوائد المنتخبات)) لابن جامع (4/910)، ((مطالب أولي النهي)) للرحيباني (6/257)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/4849). .
2- مِنَ الإجماعِ:
وهو الإجماعُ على أنَّ مَن شَهَر على آخَرَ سِلاحًا ليَقتُلَه، فدَفعَ عن نَفسِه فقَتَل الشَّاهِرَ؛ أنَّه لا شَيءَ عليه [1088] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/421). ، وقد نَقَله ابنُ حَجَرٍ [1089] قال: (الإجماعُ بأنَّ مَن شَهَر على آخَرَ سِلاحًا ليَقتُلَه، فدَفعَ عن نَفسِه فقَتَل الشَّاهِرَ؛ أنَّه لا شَيءَ عليهـ). ((فتح الباري)) (12/222). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لو صال عليه صَيدٌ في إحرامِه فقَتَله دَفعًا عن نَفسِه، لم يَضمَنْه. ولوِ اضطُرَّ فقَتَله في مَجاعةٍ ليُحييَ به نَفسَه، ضَمِنَه [1090] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/194)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/849). .
2- لو أشرَفتِ السَّفينةُ على الغَرَقِ فألقى مَتاعَ غَيرِه ليُخَفِّفَها، ضَمِنَه. ولو سَقَطَ عليه مَتاعُ غَيرِه فخَشيَ أن يُهلِكَه، فدَفعَه فوقَعَ في الماءِ، لم يَضمَنْه [1091] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/194)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/849). .

انظر أيضا: