موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ التَّاسِعُ: الاضطِرارُ لا يُبطِلُ حَقَّ الغَيرِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الاضطِرارُ لا يُبطِلُ حَقَّ الغَيرِ" [1074] يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 136)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 19)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 213)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 60)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 244)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/286). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
مَعنى الاضطِرارِ هنا الإجبارُ على فِعلِ المَمنوعِ، والاضطِرارُ على قِسمَينِ: أحَدُهما: يَنشَأُ عن سَبَبٍ داخِليٍّ، يُقالُ له: (سَماويٌّ)، كالجوعِ مَثَلًا.
أمَّا القِسمُ الثَّاني: فهو الاضطِرارُ النَّاشِئُ عن سَبَبٍ خارِجيٍّ، ويُقالُ له: (اضطِرارٌ غَيرُ سَماويٍّ)، وهو نَوعانِ: الإكراهُ المُلجِئُ، والإكراهُ غَيرُ المُلجِئِ.
ففي القِسمِ الأوَّلِ: يَجوزُ له أن يَأكُلَ مِن مالِ الغَيرِ بقَدرِ ما يَدفعُ به الهَلاكَ عن نَفسِه جوعًا، ويَدفعُ الصَّائِلَ بما أمكَنَ ولو بالقَتلِ، ويَضمَنُ في المحَلَّينِ وإن كان مُضطَرًّا؛ فإنَّ الاضطِرارَ يَظهَرُ في حِلِّ الإقدامِ لا في رَفعِ الضَّمانِ وإبطالِ حَقِّ الغَيرِ.
وفي الثَّاني: إذا كان وارِدًا على إتلافِ مالِ الغَيرِ؛ فإنَّ المُكرَهَ يَضمَنُه، أمَّا الإكراهُ غَيرُ المُلجِئِ فإنَّه لا يُبيحُ الإقدامَ على الإتلافِ، ولو أقدَمَ فإنَّ الضَّمانَ عليه لا على المُكرِهِ؛ لأنَّ الاضطِرارَ لا يَتَحَقَّقُ في غَيرِ المُلجِئِ بالنِّسبةِ لمالِ الغَيرِ.
والذي يُفهَمُ مِن هذه القاعِدةِ أنَّ حالةَ الضَّرورةِ لا تَكونُ سَبَبًا للإعفاءِ مِنَ الضَّمانِ، ولا يَصلُحُ الجَهلُ بكَونِ المالِ المُتلَفِ مالًا للغَيرِ سَبَبًا أيضًا للتَّخَلُّصِ مِنَ الضَّمانِ، فمَن أتلف مالًا ظانًّا أنَّه مِلكُه، ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّه مَملوكٌ لغَيرِه، ضَمِنَه. كُلُّ ما في الأمرِ أنَّ الإتلافَ إذا تَمَّ مَعَ العِلمِ فيوجِبُ الضَّمانَ والإثمَ الأُخرَويَّ، وإذا حَدَثَ جَهلًا فيوجِبُ الضَّمانَ فقَط، ويَرتَفِعُ الإثمُ؛ لأنَّ الخَطَأَ مَرفوعُ المُؤاخَذةِ شَرعًا.
والظَّاهرُ أنَّ ضَمانَ المُكرَهِ لا يَختَصُّ بما إذا كان المُكرَهُ على إتلافِه مالَ الغَيرِ، بَل مِثلُه ما إذا كان مالَ المُكرَهِ؛ فإنَّه لو أُكرِهَ على أكلِ طَعامِ نَفسِه وكان غَيرَ جائِعٍ، فإنَّ المُكرِهَ يَضمَنُه له [1075] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/42)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 213)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/4835)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/286). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ إتلافَ حَقِّ الغَيرِ ضَرَرٌ به، فتَجِبُ إزالتُه، وإزالتُه هنا إنَّما تَكونُ بإيجابِ ضَمانِه على المُضطَرِّ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)؛ حَيثُ إنَّه يَجِبُ إزالةُ الضَّرَرِ الواقِعِ، ويَكونُ ذلك بالضَّمانِ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لو أنَّ شَخصًا جاعَ جوعًا شَديدًا وأصبَحَ عُرضةً للتَّلفِ -أي: للمَوتِ- فله أن يَأخُذَ مِن طَعامِ الغَيرِ ما يَدفعُ به جوعَه بدونِ إذنِ صاحِبِ المالِ، إلَّا أنَّه يَجِبُ عليه أن يَضمَنَ قيمةَ المالِ المُتلَفِ، إذا كان مِنَ القِيميَّاتِ، ومِثلُه إذا كان مِنَ المِثْليَّاتِ [1076] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/43). ويُنظر أيضًا: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/286). .
2- لو هَجَمَ جَمَلٌ على شَخصٍ وأصبَحَت حَياتُه مُهَدَّدةً، فله إتلافُ الجَمَلِ تَخليصًا لحَياتِه مِن يَدِ الهَلاكِ، إلَّا أنَّه يَجِبُ عليه أن يَدفعَ قيمةَ الجَمَلِ لصاحِبِه. فإذا اعتَرَضَ بقاعِدةِ: أنَّ الضَّروراتِ ما دامَت تُبيحُ المَحظوراتِ، فيَجِبُ عَدَمُ الضَّمانِ. فيُجابُ على ذلك: بأنَّ القَصدَ مِنَ الإباحةِ هذه إنَّما هو تَجويزُ إتلافِ المالِ بدونِ رِضا صاحِبِه، وأن لا يُعَدَّ الفاعِلُ غاصِبًا إلَّا أنَّه مِنَ الجِهةِ الأُخرى يَجِبُ الضَّمانُ؛ لأنَّ الإباحةَ لا تَكونُ سَبَبًا لضَياعِ الحُقوقِ على ذَويِها [1077] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/43). وينظر أيضًا: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/4840). .
3- إذا استَأجَرَ شَخصٌ قارِبًا ساعةً مِنَ الزَّمَنِ، وبَعدَ أن وصَل إلى عُرضِ البَحرِ انقَضَت مُدَّةُ الإجارةِ، فمُقتَضى القاعِدةِ أنَّه يَجِبُ على الرَّاكِبِ أن يَترُكَ القارِبَ في الحالِ، إلَّا إذا رَضيَ المُؤَجِّرُ أن يُؤَجِّرَه ثانيةً، ولكِنْ بما أنَّه يوجَدُ هنا اضطِرارٌ فصاحِبُ السَّفينةِ مُجبَرٌ على أن يبقى المُستَأجِرُ في القارِبِ حتَّى يَخرُجَ به إلى البَرِّ، ولكِنَّ هذا الإجبارَ لا يَمنَعُ المُؤَجِّرَ مِن أن يُطالِبَ المُستَأجِرَ بدَفعِ أُجرةِ المِثلِ عنِ المُدَّةِ الزَّائِدةِ [1078] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/43). .

انظر أيضا: