المَطلبُ الخامِسُ: الضَّرَرُ لا يُزالُ بضَرَرٍ مِثلِه
أوَّلًا: صِيغةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ: "الضَّرَرُ لا يُزالُ بالضَّرَرِ"
[1020] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3441)، ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (3/495)، ((المهذب)) للشيرازي (2/60)، ((نهاية المطلب)) للجويني (7/382)، ((بحر المذهب)) للروياني (4/573)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/70)، ((التهذيب)) للبغوي (4/353)، ((المغني)) لابن قدامة (7/467). .
ولكِنَّ التَّعبيرَ بـ(الضَّرَرُ لا يُزالُ بمِثلِه ) أكثَرُ دِقَّةً؛ إذ يَشمَلُ المِثْلَ والأعلى مِنَ الضَّرَرِ كَما سَيَأتي في المَعنى الإجماليِّ للقاعِدةِ، وهذا المَعنى يَنتَفي بالتَّعبيرِ الآخَرِ بصيغةِ (الضَّرَر) فقَط؛ لأنَّه يَشمَلُ كُلَّ ضَرَرٍ أخَفَّ ومِثْلٍ وأعلى. وهذا ليسَ مُرادًا قَطعًا
[1021] يُنظر: ((المختصر فيما عرف من قواعد الفقه واشتهر)) لأنور أبو زيد (ص: 79). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ الضَّرَرَ يُزالُ في الشَّرعِ إلَّا إذا كانت إزالتُه لا تَتَيَسَّرُ إلَّا بإدخالِ ضَرَرٍ مِثلِه على الغَيرِ، فحينَئِذٍ لا يُرفَعُ ولا يُزالُ بضَرَرٍ مِثلِه، ولا بما هو فوقَه بالأَولى، فلا يُزالُ ضَرَرُ امرِئٍ بارتِكابِ ضَرَرِ امرِئٍ آخَرَ، فيَنبَغي أن يَكونَ الضَّرَرُ في المَحظورِ الذي يَحِلُّ الإقدامُ عليه أقَلَّ مِن حالةِ الضَّرورةِ؛ إذِ الضَّرَرُ لا يُزالُ بضَرَرٍ مُماثِلٍ له، ولا بضَرَرٍ أكبَرَ مِنه، وإنَّما يُزالُ بضَرَرٍ أدنى مِنه، بناءً على قاعِدةِ ارتِكابِ أخَفِّ الضَّرَرَينِ، وفي هذا نَظَرٌ واعتِبارٌ للمآلاتِ
[1022] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/215)، ((فقه النوازل)) لمحمد يسري (1/474). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الضَّرَرَ يُزالُ ولكِن لا بضَرَرٍ، فهيَ أخَصُّ مِنها
[1023] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/41). ويُنظر أيضًا: ((القواعد)) للحصني (1/32)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2144)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 74). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:- مُصالحةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُشرِكينَ في الحُدَيبيةِ، وشَرَطَ فيها أنَّ مَن جاءَ مِن أهلِ مَكَّةَ مُسلِمًا رَدَّه إليهم، ومَن ذَهَبَ مِنَ المُسلمينَ إليهم فإنَّهم لا يَرُدُّونَه
[1024] لفظُه: عن مَروانَ بنِ الحَكَمِ، والمِسوَرِ بنِ مَخرَمةَ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّه لمَّا كاتَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُهَيلَ بنَ عَمرٍو يَومَ الحُدَيبيةِ على قَضيَّةِ المُدَّةِ، وكان فيما اشتَرَطَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو أنَّه قال: لا يَأتيكَ مِنَّا أحَدٌ، وإن كان على دينِكَ، إلَّا رَدَدتَه إلينا، وخَلَّيتَ بَينَنا وبَينَه، وأبى سُهَيلٌ أن يُقاضيَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا على ذلك، فكَرِهَ المُؤمِنونَ ذلك وامَّعَضوا، فتَكَلَّموا فيه، فلمَّا أبى سُهَيلٌ أن يُقاضيَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا على ذلك، كاتَبَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَدَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا جَندَلِ بنَ سُهَيلٍ يَومَئِذٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عَمرٍو، ولم يَأتِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَدٌ مِنَ الرِّجالِ إلَّا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مُسلِمًا، وجاءَتِ المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ، فكانت أُمُّ كُلثومٍ بنتُ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ مِمَّن خَرَجَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَرجِعَها إليهم، حتَّى أنزَل اللهُ تعالى في المُؤمِناتِ ما أَنزَل)). أخرجه البخاري (4180، 4181). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذا وإن كان فيه إدخالُ ضَيمٍ على المُسلمينَ بوجهٍ ما -ولذلك استشكله عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه- لكِنَّه احتِمالٌ لأخَفِّ المَفاسِدِ؛ مِن أجلِ دَفعِ أشَدِّها
[1025] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2144). .
- وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((بينما نحن في المسجِدِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يَبولُ في المسجدِ، فقال أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَهْ مَهْ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تُزْرِموه [1026] أي: لا تَقطَعوا عَليه بولَه. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 2174). ، دعوه، فتركوه حتَّى بال، ثمَّ إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجِدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من هذا البولِ ولا القَذَرِ، إنَّما هي لذِكرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ والصَّلاةِ وقراءةِ القُرآنِ، أو كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال فأمَر رجلًا من القومِ فجاء بدَلوٍ من ماءٍ فشَنَّه عليهـ)) [1027] أخرجه البخاري (6025) مختصرًا، ومسلم (285) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تُزرِموهـ)) لأنَّه لو أُزعِجَ لانتَشَرَتِ النَّجاسةُ؛ فتَكثُرُ المَفسَدةُ
[1028] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2145). .
2- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا طَلبَ الشَّفيعُ
[1029] الشُّفعةُ هيَ: استِحقاقُ انتِزاعِ الإنسانِ حِصَّةَ شَريكِه مِن مُشتَريها بمِثلِ ثَمَنِها. يُنظر: ((الكافي)) لابنِ قدامة (2/232). أخذَ بَعضِ حِصَّةِ شَريكِه التي باعَها فقَط لا كُلِّها، فليسَ له حَقُّ الشُّفعةِ؛ للمَصلحةِ؛ حَيثُ إنَّ ذلك يُلحِقُ الضَّرَرَ بالمُشتَري؛ حَيثُ إنَّه يُريدُ الحِصَّةَ بكامِلها لكَونِ الفائِدةِ لا تَتِمُّ له إلَّا بكَمالِها، فإذا أخَذَ بَعضَ المَبيعِ تَضَرَّرَ، والشُّفعةُ شُرِعَت لدَفعِ الضَّرَرِ عنِ الشَّريكِ، فإذا تَرَتَّبَ عليها إلحاقُ الضَّرَرِ بالمُشتَري فإنَّ ذلك يَكونُ إزالةَ ضَرَرٍ عنِ الشَّفيعِ بضَرَرٍ يَلحَقُ المُشتَريَ، وهذا مُخالِفٌ لقاعِدةِ "الضَّرَرُ لا يُزالُ بضَرَرٍ مِثلِه"، فدَفعًا لذلك تَسقُطُ الشُّفعةُ؛ لِما فيها مِنَ الضَّرَرِ
[1030] يُنظر: ((تيسير مسائل الفقهـ)) لعبد الكريم النملة (3/551). وينظر أيضًا: ((المهذب)) للشيرازي (2/219)، ((المغني)) لابن قدامة (7/500). .
2- جَوازُ أخذِ عُضوٍ مِن جِسمِ إنسانٍ حَيٍّ وزَرعِه في جِسمِ إنسانٍ آخَرَ مُضطَرٍّ إليه؛ لإنقاذِ حَياتِه، أو لاستِعادةِ وظيفةٍ مِن وظائِفِ أعضائِه الأساسيَّةِ، وفيه مَصلحةٌ كَبيرةٌ وإعانةُ خَيرٍ للمَزروعِ فيه، بشَرطِ أن لا يَضُرَّ أخذُ العُضوِ مِنَ المُتَبَرِّعِ به ضَرَرًا يُخِلُّ بحَياتِه العاديَّةِ؛ لأنَّ القاعِدةَ الشَّرعيَّةَ: أنَّ الضَّرَرَ لا يُزالُ بضَرَرٍ مِثلِه ولا بأشَدَّ مِنه
[1031] يُنظر: ((البيوع المحرمة والمنهي عنها)) لعبد الناصر ميلاد (ص: 415). ويُنظر أيضًا: ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 354). .
3- إذا لم يوجَدْ للأُمِّ المُرضِعةِ لَبَنٌ، فقد أجازَ البَعضُ تَناوُلَ مُدِرَّاتِ نُزولِ اللَّبَنِ لإرضاعِه، والمُستَنَدُ في ذلك أنَّ في تَركِها إرضاعَه وحَضانَتَه هَلاكًا مُحَقَّقًا للطِّفلِ، وما يُخشى مِن تَبِعةِ الهرموناتِ التي تَتَضَمَّنُها المُدِرَّاتُ فغَيرُ مُحَقَّقِ الهَلاكِ، فيُدفَعُ أكبَرُ الضَّرَرَينِ. لكِن إن ثَبَتَ أنَّ لنَوعٍ ما مِنَ المُدِرَّاتِ الصِّناعيَّةِ للحَليبِ ضَرَرًا في بَعضِ مُكَوِّناتِه؛ بسَبَبِ زيادةِ نِسبةِ الهرموناتِ الصِّناعيَّةِ مَثَلًا عنِ القَدرِ المُعتَدِلِ، وكان هذا الضَّرَرُ أعظَمَ فسادًا مِنَ الفسادِ المُتَرَتِّبِ على تَخَلُّفِ المَصلَحةِ المَظنونةِ؛ فإنَّه لا يَحِلُّ تَعاطي مُدِرَّاتِ الحَليبِ حينَئِذٍ، ولا يَحِلُّ للطَّبيبِ أوِ الصَّيدَليِّ صَرفُها أو وصفُها للمُعالجِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ لا يُزالُ بالضَّرَرِ
[1032] يُنظر: ((النوازل في الرضاع)) لعبد الله الأحمد (ص: 79). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثنَاءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ؛ مِنها
[1033] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/45)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/217). :
1- أصلُ شَرعيَّةِ القِصاصِ، والحُدودِ، وقِتالِ البُغاةِ، وقاطِعِ الطَّريقِ، ودَفعِ الصَّائِلِ
[1034] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/45)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 87). .
2- الفَسخُ بعَيبِ البَيعِ، والنِّكاحِ، والإعسارِ، والإجبارُ على قَضاءِ الدُّيونِ، والنَّفقةِ الواجِبةِ لقَريبٍ أو دابَّةٍ أو زَوجةٍ
[1035] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/45)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 87). .