موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ السَّادِسُ: الضَّرَرُ الأشَدُّ يُزالُ بالضَّرَرِ الأخَفِّ. والضَّرَرُ المُستَمِرُّ يُزالُ بما هو دونَه في الاستِمرارِ


أوَّلًا: صِيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الضَّرَرُ الأشَدُّ يُزالُ بالضَّرَرِ الأخَفِّ. والضَّرَرُ المُستَمِرُّ يُزالُ بما هو دونَه في الاستِمرارِ" [1036] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 19)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 199)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 88). ، وصيغةِ: "الضَّرَرُ الأشَدُّ يُزالُ بالأخَفِّ" [1037] يُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 615)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/192). . وصيغةِ: "الضَّرَرُ الأخَفُّ يُرتَكَبُ للخَلاصِ مِنَ الضَّرَرِ الأشَدِّ والأعظَمِ" [1038] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/40). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الضَّرَرَ ليسَ على دَرَجةٍ واحِدةٍ، وإنَّما يَتَفاوتُ في ذاتِه وفي آثارِه، وتَجوزُ إزالةُ الضَّرَرِ بضَرَرٍ يَكونُ أخَفَّ مِنه، ولا يَجوزُ أن يُزالَ بمِثلِه أو بأشَدَّ مِنه، أي: أنَّه إذا لم يُمكِنْ إزالةُ الضَّرَرِ نهائيًّا، وكان بَعضُه أشَدَّ مِن بَعضٍ، ولا بُدَّ مِنِ ارتِكابِ أحَدِهما، فتَأتي هذه القاعِدةُ: الضَّرَرُ الأشَدُّ يُزالُ ويُرفَعُ ويُتَجَنَّبُ بارتِكابِ الضَّرَرِ الأخَفِّ؛ وذلك لعِظَمِ الأوَّلِ على الثَّاني، وشِدَّتِه في نَفسِه، أو لأنَّ الضَّرَرَ الأوَّلَ عامٌّ يَعُمُّ أثَرُه، والضَّرَرُ الثَّاني خاصٌّ ويَنحَصِرُ أثَرُه؛ فتُقدَّمُ المَصلَحةُ العامَّةُ على المَصلحةِ الخاصَّةِ.
ولذلك لا يَجوزُ دَفعُ الفَسادِ القَليلِ بالفَسادِ الكَثيرِ، ولا دَفعُ أخَفِّ الضَّرَرَينِ بتَحصيلِ أعظَمِ الضَّرَرَينِ، فإنَّ الشَّريعةَ جاءَت بتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكميلِها، وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها بحَسَبِ الإمكانِ، ومَطلوبُها تَرجيحُ خَيرِ الخَيرينِ إذا لم يُمكِنْ أن يَجتَمِعا جَميعًا، ودَفعُ شَرِّ الشَّرَّينِ إذا لم يَندَفِعا جَميعًا [1039] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/343)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 615)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/192)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/219). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الضَّرَرَ الأشَدَّ تَجِبُ إزالتُه، لكِن لو أُزيلَ بضَرَرٍ مِثلِه أو أشَدَّ مِنه لم يَتَحَقَّقْ مَعنى إزالتِه، فالأَولى إزالتُه بدونِ ضَرَرٍ مُطلقًا، فإن لم يُمكِنْ فبضَرَرٍ أخَفَّ مِنه، ويُرتَكَبُ الضَّرَرُ الأخَفُّ مِن أجلِ الخَلاصِ مِنَ الضَّرَرِ الأشَدِّ والأعظَمِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن سَهلِ بنِ أبي حَثمةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ الثَّمَرِ بالتَّمرِ، وقال: ذلك الرِّبا، تلك المُزابَنةُ، إلَّا أنَّه رَخَّصَ في بَيعِ العَرِيَّةِ: النَّخلةِ والنَّخلتَينِ يَأخُذُها أهلُ البَيتِ بخَرصِها تَمرًا يَأكُلونَها رُطَبًا )) [1040] أخرجه مسلم (1540). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا نَهاهم عنِ المُزابَنةِ لِما فيها مِن رِبًا أو مُخاطَرةٍ، أباحَها لهم في العَرايا للحاجةِ؛ لأنَّ ضَرَرَ المَنعِ مِن ذلك أشَدُّ مِن ضَرَرِ المُزابَنةِ [1041] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/270). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: (الضَّرَرُ لا يُزالُ بضَرَرٍ مِثلِهـ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا أحدَثَ المُشتَري في العَقارِ المَشفوعِ [1042] الشُّفعةُ هيَ: استِحقاقُ انتِزاعِ الإنسانِ حِصَّةَ شَريكِه مِن مُشتَريها بمِثلِ ثَمَنِها. يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/232). أبنيِةً، فلو أُجبرَ المُشتَري -والحالةُ هذه- على قَلعِها وتَسليمِ العَقارِ المَشفوعِ للشَّفيعِ، يَتَضَرَّرُ المُشتَري، كَما أنَّه إذا أُجبِرَ الشَّفيعُ على أخذِ المَشفوعِ مَعَ دَفعِ قيمةِ البناءِ الذي أحدَثَه المُشتَري يَتَضَرَّرُ أيضًا بإجبارِه على دَفعِ نُقودٍ ثَمَنًا للبناءِ المُحدَثِ زيادةً عن قيمةِ المَشفوعِ، إلَّا أنَّ هذا الضَّرَرَ أخَفُّ مِن ضَرَرِ المُشتَري فيما لو أجبَرناه على قَلعِ البناءِ؛ إذ يَضيعُ ما أنفَقَه على البناءِ بلا مُقابلٍ، بخِلافِ الشَّفيعِ؛ فإنَّه يَأخُذُ مُقابِلَ الثَّمَنِ الذي يَدفَعُه البِناءَ أوِ الشَّجَرَ. إذًا فضَرَرُ الشَّفيعِ أخَفُّ مِن ضَرَرِ المُشتَري فيُختارُ، ويُكَلَّفُ ذلك الشَّفيعُ بأخذِ الأبنيةِ ودَفعِ القيمةِ للمُشتَري [1043] يُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 615)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/192). .
2- حَبسُ مَن وجَبَت عليه النَّفقةُ إذا امتَنَعَ عن أدائِها ولو نَفَقةَ ابنِه، وجَوازُ ضَربِه في الحَبسِ إذا امتَنَعَ عنِ الإنفاقِ [1044] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 199)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/220). .
3- لوِ ابتَلعَت دَجاجةٌ لُؤلُؤةً، أو أدخَل البَقَرُ رَأسَه في قِدرٍ، أو أودَعَ فَصيلًا فكَبِرَ في بَيتِ المودَعِ، ولم يُمكِنْ إخراجُه إلَّا بهَدمِ الجِدارِ، أو كَسرِ القِدرِ، أو ذَبحِ الدَّجاجةِ؛ يَضمَنُ صاحِبُ الأكثَرِ قيمةً الأقَلَّ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ الضَّرَرَ الأشَدَّ يُزالُ بالأخَفِّ [1045] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (28/181). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثنَاءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ؛ مِنها:
1- لو غَصَبَ إنسانٌ أرضًا فبَنى فيها أو غَرَسَ، ثُمَّ طَلبَها مالكُها، فإنَّ الغاصِبَ يُؤمَرُ بقَلعِ البناءِ أوِ الغَرسِ مَهما بَلغَت قيمَتُه، ولو كان الضَّرَرُ أشَدَّ عليه، إلَّا إذا كان قَلعُهما يَضُرُّ بالأرضِ، فإنَّ المالِكَ يَتَمَلَّكُهما بقيمَتِهما مُستَحِقَّينِ للقَلعِ [1046] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/225). .
2- لو غَصَبَ أحَدٌ بَقَرةً أو ناقةً صَغيرةً وأدخَلها دارَه، وكَبِرَت وتَعَذَّرَ إخراجُها بدونِ هَدمِ الدَّارِ، فإنَّها تُهدَمُ مِن غَيرِ ضَمانٍ، وكذلك إذا غَصَبَ غِراسًا وغَرسَه في أرضِه، فإنَّه يُقلَعُ ولا يُضمَنُ حَفرُه [1047] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/225). .

انظر أيضا: