موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ السَّابعُ: الرِّضا بأدنى الضَّرَرَينِ لا يَكونُ رِضًا بأعلاهما


أوَّلًا: صِيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الرِّضا بأدنى الضَّرَرَينِ لا يَكونُ رِضًا بأعلاهما" [1048] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/216). ، وصيغةِ: "تَحمُّلُ الضَّرَرِ اليَسيرِ لا يَدُلُّ على تَحَمُّلِ الضَّرَرِ الكَثيرِ" [1049] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/22). ، وصيغةِ: "الرِّضا بالشَّيءِ يَكونُ رِضًا بما هو مِثْلُه أو دونَه عادةً لا بما هو أضَرُّ مِنه" [1050] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/14). ، وصيغةِ: "الرِّضا بأعلى الضَّرَرَينِ رِضًا بالأدنى وبمِثلِه دَلالةً" [1051] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (2/53). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تَدخُلُ هذه القاعِدةُ في كَثيرٍ مِنَ المُعامَلاتِ الجاريةِ بَينَ النَّاسِ، والتي قد يَتَرَتَّبُ عليها ضَرَرٌ، فإذا وُجِدَ التَّصريحُ مِن صاحِبِ الشَّأنِ بالرِّضا بضَرَرٍ خَفيفٍ فلا يَدُلُّ ذلك على الرِّضا بالضَّرَرِ الأعظَمِ والأشَدِّ، بخِلافِ العَكسِ، وإذا رَضيَ أحَدٌ بالضَّرَرِ اليَسيرِ فلا يَدُلُّ رِضاه به على الرِّضا بما هو أعلى مِنه ضَرَرًا، بَل لا بُدَّ مِن تَصريحِه بالرِّضا؛ لأنَّ الرِّضا بالضَّرَرِ اليَسيرِ يُخرِجُه عن كَونِه ضَرَرًا، فيَبقى الأعلى على الأصلِ مِنَ المَنعِ [1052] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (8/1019). .
قال الأسمنَديُّ: (الرِّضا بالشَّيءِ رِضًا به وبلوازِمِه، والرِّضا بالضَّرَرِ يُخرِجُه مِن أن يَكونَ ضَرَرًا) [1053] ((طريقة الخلاف في الفقهـ)) (ص: 175). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّه إذا كانت إزالةُ الضَّرَرِ واجِبةً مُطلقًا، إلَّا أنَّه قد يَقَعُ الضَّرَرُ الأدنى على أحَدِ المُكَلَّفينَ فيَرضى به، فلا يَدُلُّ رِضاه بذلك على رِضاه بالضَّرَرِ مُطلَقًا؛ لأنَّ رِضاه بالضَّرَرِ الأدنى على خِلافِ الأصلِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)؛ إذِ الأصلُ أنَّ إزالةَ الضَّرَرِ واجِبةٌ، فلا يُؤَثِّرُ فيه الرِّضا بأدنى الضَّرَرَينِ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لوِ استَعارَ دابَّةً على أن يَحمِلَ عليها مِائةً مِن قُطنٍ، فحَمَل عليها مِثلَه مِنَ الحَديدِ وَزنًا، فعَطِبَت، يَضمَنُ؛ لأنَّ القُطنَ يَنبَسِطُ على ظَهرِ الدَّابَّةِ، فكان ضَرَرُه أقَلَّ مِنَ الحَديدِ؛ لأنَّ الحَديدَ يَكونُ في مَوضِعٍ واحِدٍ، فضَرَرُه بالدَّابَّةِ أكثَرُ، والرِّضا بأدنى الضَّرَرَينِ لا يَكونُ رِضًا بأعلاهما، فكان التَّقييدُ مُفيدًا فيَلزَمُ اعتِبارُه [1054] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/216). ويُنظر أيضًا: ((الاختيار)) للموصلي (2/53)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (5/4042). .
2- إن أعارَ الرَّجُلُ غَيرَه أرضًا للزَّرعِ فليسَ له أن يَبنيَ أو يَغرِسَ فيها؛ لأنَّ البناءَ والغِراسَ كُلٌّ مِنهما أكثَرُ ضَرَرًا على الأرضِ مِنَ الزَّرعِ، ورِضاه بالأقَلِّ لا يَدُلُّ على رِضاه بالأشَدِّ [1055] يُنظر: ((الفقه المنهجي)) لمصطفى الخن وآخرين (7/46). .
3- إذا استَأجَرَ رَجُلٌ مَحَلًّا تِجاريًّا ليَبيعَ فيه ثيابًا، أو يَفتَحَ مَصنَعًا لخياطةِ المَلابسِ، فليسَ له أن يجعَلَ مِنه ورشةً لصيانةِ السَّيَّاراتِ؛ لأنَّ صاحِبَ الحانوتِ إنَّما رَضيَ بالضَّرَرِ الخَفيفِ لا بالشَّديدِ [1056] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (8/1019). .

انظر أيضا: