موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: قاعِدةُ الضَّرَرُ يُزالُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
اشتَهَرَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ: "الضَّرَرُ يُزالُ" [954] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/41)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/463)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/28)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2141)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3835)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (4/41)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 83). .
كَما استُعمِلَت أيضًا بصيغةِ: "الضَّرَرُ يُزالُ بالإجبارِ" [955] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/401). . وبصيغةِ: "الضَّرَرُ مُزالٌ" [956] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/333). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الضَّرَرَ تَجِبُ إزالتُه [957] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (8/3846)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 147). ، أي: حَظرُ إيقاعِه، ووُجوبُ إزالتِه بَعدَ الوُقوعِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ ظُلمٌ وغَدرٌ، والواجِبُ عَدَمُ إيقاعِه، وإقرارُ الظَّالمِ على ظُلمِه حَرامٌ ومَمنوعٌ أيضًا، فيَجِبُ إزالتُه [958] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/37)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 179). .
وهذه القاعِدةُ تَتَضَمَّنُ شَطرَ الفِقهِ؛ فإنَّ مَقصودَ الأحكامِ الفِقهيَّةِ: جَلْبُ المَنافِعِ، ودَفعُ المَضارِّ، والقِسمُ الثَّاني كُلُّه وبَعضُ الأوَّلِ مِثالٌ لهذه القاعِدةِ؛ إذ يَشتَمِلُ على حُدودِ الجِناياتِ وفَصلِ الخُصوماتِ، والحُدود لدَفعِ الضَّرَرِ عنِ الضَّروريَّاتِ الخَمسِ الشَّرعيَّةِ، فهذه القاعِدةُ تَرجِعُ إلى تَحصيلِ المَقاصِدِ وتَقريرِها بدَفعِ المَفاسِدِ أو تَخفيفِها [959] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/464)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2142)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3846). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قال اللهُ تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ ‌حَتَّى ‌لَا ‌تَكُونَ ‌فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الشِّركَ مَضَرَّةٌ في الدِّينِ، فيُزالُ بقِتالِ المُشرِكينَ المُحارِبينَ والمُرتَدِّينَ، حتَّى لا يَبقى إلَّا مُسلِمٌ أو مُسالمٌ بهُدنةٍ أو بجِزيةٍ [960] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/464)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2142). .
- وقال اللهُ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا ‌تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ نَهى الرَّجُلَ عنِ الإضرارِ بمُطَلَّقَتِه بإمساكِه إيَّاها بغَيرِ إنفاقٍ، وبالتَّضييقِ عليها في المَسكَنِ الذي يُسكِنُها فيه إذا وَجَدَ سَعةً؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا بها وتَضييقًا عليها، وليسَ هذا الإضرارُ مِن فِعلِ العاقِلينَ، ولا مِن أخلاقِ المُتَّقينَ [961] يُنظر: ((الإشراف)) لابن المنذر (8/255)، ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (9/299)، ((النوازل في الرضاع)) لعبد الله الأحمد (ص: 73). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عَنْ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ)) [962] أخرجه ابنُ ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778). صَحَّحه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2340)، وحَسَّنه النووي في ((الأذكار)) (502)، وقال الشوكاني في ((الدراري المضية)) (285): مَشهورٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ واضِحٌ في مَنعِ الضَّرَرِ، وقيل في الفَرقِ بَينَ الضَّرَرِ والضِّرارِ: أنَّ الضَّرَرَ: ما كان مِن فِعلِ واحِدٍ، والضِّرارَ: ما كان مِنِ اثنَينِ، فيَضُرُّ كُلٌّ مِنهما بالآخَرِ [963] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/185)، ((القواعد)) للحصني (1/334)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2142). .
- وعن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ: أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ خاصَمَ الزُّبَيرَ في شِراجٍ مِنَ الحَرَّةِ [964] قال المظهَريُّ: ("الشِّراجُ" بكَسرِ الشِّينِ: جَمعُ شَرْجٍ، وهو مَسيلُ الماءِ مِنَ الحَرَّةِ -أي: مِن بَينِ الحِجارةِ- إلى المَوضِعِ السَّهلِ. يَعني: كانت أرضُ الزُّبَيرِ أعلى مِن أرضِ الأنصاريِّ، وكانت كِلتا الأرَضينِ يَسقيانِ مِن ماءٍ جارٍ في وادٍ). ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (3/ 503-504). يَسقي بها النَّخلَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اسقِ يا زُبَيرُ، فأمَرَه بالمَعروفِ، ثُمَّ أرسِلْ إلى جارِك، فقال الأنصاريُّ: أن كان ابنَ عَمَّتِك؟ فتَلَوَّن وَجهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ثُمَّ قال: اسقِ، ثُمَّ احبسِ الماءَ، حتَّى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ، واستَوعى له حَقَّه، فقال الزُّبَيرُ: واللهِ إنَّ هذه الآيةَ أُنزِلت في ذلك: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] [965] أخرجه البخاري (2362). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ يَدُلُّ على إزالةِ الضَّرَرِ عنِ الجارِ، وفيه دَلالةٌ على أنَّ الضَّرَرَ يُزالُ بالإجبارِ [966] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/410). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ جِدًّا، حتَّى قال الحصنيُّ: (هذه القاعِدةُ يُبنى عليها كَثيرٌ مِن أبوابِ الفِقهِ ومَسائِلُ لا تَكادُ تُحصى) [967] ((القواعد)) (1/334). ، وقال البِرْماويُّ: (هذه القاعِدةُ فيها مِنَ الفِقه ما لا حَصرَ له، ولعَلَّها تَتَضَمَّنُ شَطرَهـ) [968] ((الفوائد السنية)) (5/2142). ، وكُلُّ هذه المَسائِلِ تَدُلُّ على نَفيِ الضَّرَرِ ووُجوبِ إزالتِه، ومِن ذلك:
1- فَسخُ النِّكاحِ عِندَ العُيوبِ؛ لِما في المُقامِ على ذلك مِنَ الضَّرَرِ اللَّازِمِ، لا سيَّما في جانِبِ الزَّوجةِ؛ لعَدَمِ تَمَكُّنِها مِنَ الطَّلاقِ [969] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/335). .
2- شَقُّ بَطنِ المَرأةِ الحامِلِ المَيِّتةِ مِن أجلِ إنقاذِ جَنينِها الحَيِّ، فكَما يَجوزُ شَقُّ البَطنِ للعِلاجِ والتَّداوي، كذلك يَجوزُ شَقُّها لإنقاذِ النَّفسِ المُحَرَّمةِ، ولأنَّ بَقاءَها في البَطنِ بدونِ ذلك يُعتَبَرُ ضَرَرًا مَحضًا، فتُشرَعُ إزالتُه بالجِراحةِ اللَّازِمةِ؛ للقاعِدةِ الشَّرعيَّةِ التي تَقولُ: "الضَّرَرُ يُزالُ" [970] يُنظر: ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 156). .
3- قَطعُ الأعصابِ النَّاقِلةِ للألمِ في بَعضِ الحالاتِ المُستَعصيةِ، وتُعرَفُ هذه الجِراحةُ عِندَ الأطِبَّاءِ بجِراحةِ التَّغَلُّبِ على الألمِ، وهو نَوعٌ خاصٌّ مِنَ الآلامِ يُسَمَّى الألمَ العنيدَ، فلا تُعالجُ بهذا النَّوعِ مِنَ الجِراحةِ الآلامُ الخَفيفةُ المُحتَمَلةُ، وإنَّما تُعالَجُ به الآلامُ القَويَّةُ المُبرِحةُ التي استَعصى عِلاجُها على الأطِبَّاءِ، فيَقومُ الأطِبَّاءُ بقَطعِ العَصَبِ النَّاقِلِ للألمِ والإشاراتِ الحِسِّيَّةِ مِن مِنطَقةِ الألمِ إلى الدِّماغِ، والعَكس، وبقَطعِ هذه الأعصابِ يَتَخَلَّصُ المَريضُ مِنَ الألمِ، ويَعتَبرُ الأطِبَّاءُ الجِراحةَ في هذه الحالةِ هيَ الحَلَّ الوحيدَ الذي يَتَعَيَّنُ فِعلُه لإنقاذِ المَرضى مِن تلك الآلامِ المُبرِحةِ والتي استَعصى عِلاجُها بالوسائِلِ الأُخرى، فيَجوزُ قَطعُها؛ إذ إنَّ مِن قَواعِدِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ أنَّ الضَّرَرَ يُزالُ، والألمُ ضَرَرٌ، فتُشرَعُ إزالتُه [971] يُنظر: ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 308-310). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
فائِدةٌ:
هذه القاعِدةُ مُقَيَّدةٌ بألَّا يَكونَ الضَّرَرُ مِمَّا أذِنَ فيه الشَّرعُ، وكان بوَجهِ حَقٍّ، فإنَّ هذا النَّوعَ مِنَ الضَّرَرِ لا تَجِبُ إزالتُه. فلا يَدخُلُ تَحتَ القاعِدةِ الضَّرَرُ الذي يَلحَقُ الجانيَ بمُعاقَبَتِه، ولا الضَّرَرُ الذي يَلحَقُ الضَّامِنَ بضَمانِه ما أتلَفَ؛ لأنَّ هذا مِمَّا ثَبَتَ بوَجهِ حَقٍّ، وأذِنَ فيه الشَّارِعُ، كَما في قَولِه تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] ، وقَولِه سُبحانَه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] [972] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/281). .

انظر أيضا: