موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ السَّابعُ والعِشرونَ: كُلُّ ما جاوزَ حَدَّه انعَكَسَ إلى ضِدِّه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "كُلُّ ما جاوزَ حَدَّه انعَكَسَ إلى ضِدِّه" [946] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/45)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (6/1807)، ((المنثور)) للزركشي (1/123)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 83)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 72). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ المِقدارَ الثَّابتَ بالشَّرعِ لا يَجوزُ لأحَدٍ أن يَتَجاوزَه إلى ما هو أكثَرُ مِنه أو أقَلُّ، فإذا تَجاوزَ الحَدَّ انقَلبَ إلى ضِدِّه، أي: تَغَيَّرَ حُكمُه إلى عَكسِ ما كان عليه، وذلك كالاقتِصادِ في العُقوباتِ والحُدودِ والتَّعزيراتِ الشَّرعيَّةِ، فلا يُرجَمُ الزُّناةُ بحَصَياتِ صَغيرةٍ ولا بصَخَراتٍ كَبيرةٍ، وإنَّما يُرجَمونَ بحَجَرٍ لطيفٍ يُرجَمُ بمِثلِه في العادةِ، ومِن ذلك الاقتِصادُ في الضَّربِ المَأذونِ فيه شَرعًا، فلا يُبالَغُ فيه إلى سَفحِ الدَّمِ، ولا يُضرَبُ ضَربًا لا أثَرَ له في الزَّجرِ والرَّدعِ، بَل يَكونُ ضَربُه بَينَ ضَربَينِ، وكذلك يَكونُ سَوطُ الضَّربِ بَينَ سَوطَينِ، ليسَ بجَديدٍ يَقطَعُ الجُلودَ، ولا ببالٍ لا يَحصُلُ به المَقصودُ [947] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/56)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/209:204)، ((معلمة زايد)) (9/510). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ على هذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هَلكَ المُتَنَطِّعونَ )) قالها ثَلاثًا [948] أخرجه مسلم (2670). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ دَلَّ على ذَمِّ المُتَنَطِّعينَ، وهمُ المُتَعَمِّقونَ الغالونَ المُجاوزونَ الحُدودَ في أقوالِهم وأفعالِهم [949] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/164)، ((المفهم)) للقرطبي (6/700)، ((شرح النووي على مسلم)) (16/220). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلبَه؛ فسَدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا... )) [950] أخرجه البخاري (39)، ولفظُه: عن أبي هرَيرةَ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلبَه، فسَدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا، واستَعينوا بالغَدوةِ والرَّوحةِ وشَيءٍ مِنَ الدُّلجةِ)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ التَّشديدِ في الدِّينِ، بأن يُحَمِّلَ الإنسانُ نَفسَه مِنَ العِبادةِ ما لا يَحتَمِلُه إلَّا بكُلفةٍ شَديدةٍ، وأمرٍ بالسَّدادِ، وهو القَصدُ والتَّوسُّطُ في العِبادةِ، فلا يُقَصِّرُ فيما أُمِرَ به، ولا يَتَحَمَّلُ مِنها ما لا يُطيقُه [951] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/171،170)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/151). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على ذلك:
1- الاقتِصادُ في استِعمالِ مياهِ الطَّهارةِ، فلا يَستَعمِلُ مِنَ الماءِ إلَّا قَدرَ الإسباغِ، ولا يُقَلِّلُ عن قَدرِ الإسباغِ، كَما لا يَتَجاوزُ إلى الإسرافِ للنَّهي عن كِليهما [952] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/208)، ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (6/451). .
2- الاقتِصادُ في الأكلِ والشُّربِ، فلا يَتَجاوزُ فيهما حَدَّ الشِّبَعِ والرِّيِّ، ولا يَقتَصِرُ مِنهما على ما يُضعِفُه ويُقعِدُه عنِ العِباداتِ وغَيرِها [953] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/209). ، وقد قال اللهُ تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] ، وقال اللهُ سُبحانَه: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141] .

انظر أيضا: