المَطلَبُ السَّادِسُ والعِشرونَ: مَهما حَرُمَ الكُلُّ حَلَّ الكُلُّ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "مَهما حَرُمَ الكُلُّ حَلَّ الكُلُّ"
[939] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/107). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ الحَرامَ لو طَبَّقَ الدُّنيا حتَّى عُلِمَ يَقينًا أنَّه لم يَبقَ في الدُّنيا حَلالٌ، فإنَّه حينَئِذٍ يُباحُ الأخذُ مِنَ الحَرامِ بقَدرِ الحاجةِ.
فلو مَلأ الحَرامُ الأرضَ أو ناحيةً مِنها بحَيثُ يَعسُرُ الانتِقالُ مِنها، وانسَدَّت طُرُقُ الرِّزقِ الحَلالِ، وكانتِ الحاجةُ داعيةً إلى الزِّيادةِ على مُجَرَّدِ سَدِّ الرَّمَقِ، فيُباحُ حينَئِذٍ أن يَأخُذَ النَّاسُ مِنَ الحَرامِ ولو زادوا على قَدرِ الضَّرورةِ؛ إذ لوِ اقتُصِرَ على سَدِّ الرَّمَقِ لتَعَطَّلت مَصالحُ النَّاسِ، ولم يَزالوا في مُعاناةٍ ومَشَقَّةٍ شَديدةٍ حتَّى يَهلِكوا، وفي ذلك خَرابُ الدِّينِ. لكِن لا يَنبَغي أن يُؤَدِّيَ بهم ذلك إلى التَّرَفُّهِ والتَّنَعُّمِ
[940] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/107)، ((الذخيرة)) للقرافي (13/321)، ((الاعتصام)) للشاطبي (3/28-29)، ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 524). .
قال الشَّاطِبيُّ مُعَلِّقًا على ما سَبَقَ: (هذا مُلائِمٌ لتَصَرُّفاتِ الشَّرعِ، وإن لم يُنَصَّ على عَينِه؛ فإنَّه قد أجازَ أكلَ المَيتةِ للمُضطَرِّ، والدَّمِ ولحمِ الخِنزيرِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الخَبائِثِ المُحَرَّماتِ.
وحَكى ابنُ العَرَبيِّ الاتِّفاقَ على جَوازِ الشِّبَعِ عِندَ تَوالي المَخمَصةِ، وإنَّما اختَلفوا إذا لم تَتَوالَ: هَل يَجوزُ له الشِّبَعُ أم لا؟ وأيضًا فقد أجازوا أخذَ مالِ الغَيرِ عِندَ الضَّرورةِ أيضًا، فما نَحنُ فيه لا يَقصُرُ عن ذلك)
[941] ((الاعتصام)) (3/ 29). .
وقال الجُوَينيُّ: (الحَرامُ إذا طَبَّقَ الزَّمانَ وأهلَه ولم يَجِدوا إلى طَلَبِ الحَلالِ سَبيلًا، فلهم أن يَأخُذوا مِنه قَدرَ الحاجةِ)
[942] ((غياث الأمم)) (ص: 478). .
وقال الغَزاليُّ: (لو طَبَّقَ الحَرامُ الدُّنيا حتَّى عُلِمَ يَقينًا أنَّه لم يَبقَ في الدُّنيا حَلالٌ لكُنتُ أقولُ: نَستَأنِفُ تَمهيدَ الشُّروطِ مِن وقتِنا ونَعفو عَمَّا سَلَفَ، ونَقولُ: ما جاوزَ حَدَّه انعَكَسَ إلى ضِدِّه، فمَهما حَرُمَ الكُلُّ حَلَّ الكُلُّ)
[943] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 107). .
وقال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (لو عَمَّ الحَرامُ الأرضَ بحَيثُ لا يوجَدُ فيها حَلالٌ جازَ أن يُستَعمَلَ مِن ذلك ما تَدعو إليه الحاجةُ)
[944] ((قواعد الأحكام)) (2/ 188). .
وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ أخَصَّ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ)، وذاتَ صِلةٍ بالقاعِدةِ الفرعيَّةِ التَّاليةِ (ما تَجاوَزَ حَدَّه انعَكَسَ إلى ضِدِّهـ).
ويَنبَغي أن لا يُفهَمَ مِن هذه القاعِدةِ وغَيرِها التَّحَلُّلُ مِن أحكامِ الشَّرعِ، والتَّذَرُّعُ برَفعِ الحَرَجِ والتَّيسيرِ مُطلقًا، وإنَّما لهذه القاعِدةِ ومَثيلاتِها مِن قَواعِدِ رَفعِ المَشَقَّةِ والحَرَجِ، والأخذِ بالرُّخَصِ: ضَوابِطُ وشُروطٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِدَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدَتَي: (المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ) و (إذا ضاقَ الأمرُ اتَّسَعَ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَقدَّمَ في المَعنى الإجماليِّ ما يُفيدُ ذلك بوجهٍ عامٍّ، كالحاجةِ عِندَ حُصولِ ذلك إلى القُوتِ أوِ المَلبَسِ أوِ المَسكَنِ
[945] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/107)، ((الاعتصام)) للشاطبي (3/28-29). .