موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ السَّابعَ عَشَرَ: الأصلُ في العُقودِ الجَوازُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعمِلَت هذه القاعِدةُ بصيغةِ: "الأصلُ في العُقودِ الجَوازُ والصِّحَّةُ" [470] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (7/145)، ((الإنصاف)) للمرداوي (14/329)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (6/130). ، وصيغةِ: "الأصلُ في العُقودِ الشَّرعيَّةِ الصِّحَّةُ واللُّزومُ" [471] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (18/124)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/360)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/198). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
الأصلُ في العُقودِ والشُّروطِ التي يَقومُ بها النَّاسُ هو الجَوازُ والصِّحَّةُ، ولا يَحرُمُ مِنها ويَبطُلُ إلَّا ما دَلَّ الشَّرعُ على تَحريمِه وإبطالِه، فلا يُمنَعُ مِنها إلَّا ما وُجِدَ فيه مَحذورٌ شرعيٌّ مِن جَهالةٍ، أو غَرَرٍ، أو مُخاطَرةٍ، أو ظُلمٍ لأحَدِ الجانِبَينِ، أمَّا العُقودُ الواضِحةُ السَّالِمةُ مِن تلك المَحاذيرِ فإنَّ الشَّرعَ يُجيزُها، ولا يَمنَعُ مِنها شَيئًا [472] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/815)، ((توضيح الأحكام)) لعبد الله البسام (5/46). ، وإذا كان الأصلُ في جَميعِ العُقودِ الجَوازَ، فمَتى ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ هذا العَقدَ حَرامٌ فعليه الدَّليلُ [473] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/132)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/296). .
والعِلَّةُ في أنَّ الأصلَ في العُقودِ الجَوازُ والصِّحَّةُ: أنَّ العُقودَ أسبابٌ لتَحصيلِ المَقاصِدِ مِنَ الأعيانِ؛ لأنَّ العَقدَ إنَّما شُرِعَ ليَحصُلَ المَقصودُ مِنَ المَعقودِ به أوِ المَعقودِ عليه، ودَفعُ الحاجاتِ يُناسِبُ ذلك اللُّزومَ، والأصلُ تَرتيبُ المُسَبَّباتِ على أسبابِها [474] يُنظر: ((الفروق)) (3/269)، ((الذخيرة)) (5/20) كلاهما للقرافي، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (2/161). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّ صِحَّةَ العُقودِ التي تَجري بَينَ المُسلمينَ هيَ الأصلُ؛ لأنَّ ذلك هو الأصلُ في تَصَرُّفاتِ المُسلمينَ، والفسادُ طارِئٌ على العُقودِ مَشكوكٌ فيه، واليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والاستِصحابِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالوفاءِ بالعُقودِ والعُهودِ كُلِّها، فقال تعالى: يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الإسراء: 34] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] ، وقال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة: 177] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا أمرٌ بالتِزامِ الوفاءِ بالعُقودِ التي يَعقِدُها المُسلمُ ما لم تُخالِفِ الشَّرعَ، فدَلَّ هذا على جَوازِها وصِحَّتِها [475] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/168)، ((منحة العلام)) لعبدالله الفوزان (6/350). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَلَّةٌ مِنهنَّ كانت فيه خَلَّةٌ مِن نِفاقٍ حتَّى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا وعَدَ أخلَف، وإذا خاصَمَ فجَرَ )) [476] أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) واللفظ له. .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: ثَلاثةٌ أنا خَصمُهم يَومَ القيامةِ: رَجُلٌ أعطى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَل ثَمَنَه، ورَجُلٌ استَأجَرَ أجيرًا فاستَوفى مِنه ولم يُعطِه أجرَه )) [477] أخرجه البخاري (2227). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بالوفاءِ بالعُقودِ، وفيه دَليلٌ على الجَوازِ والصِّحَّةِ [478] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/168)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/816). .
3- مِنَ الاستِصحابِ:
فالمُستَصحَبُ في العُقودِ الحِلُّ وعَدَمُ التَّحريمِ، فتَكونُ صحيحةً يَتَرَتَّبُ عليها أثَرُها، ولا يَحرُمُ مِنها أو يَبطُلُ إلَّا ما دَلَّ الشَّرعُ على تَحريمِه وإبطالِه بالدَّليلِ، فإن ثَبت دَليلٌ يُحَرِّمُ تَغَيَّرَ هذا الاستِصحابُ [479] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/815). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- تَجوزُ المُزارَعةُ، وهيَ استِئجارُ الأرضِ بمِقدارٍ شائِعٍ مِمَّا يَخرُجُ مِنها كالشَّطرِ والثُّلُثِ ونَحوِ ذلك؛ لأنَّ الأصلَ في العُقودِ الحِلُّ، ولا يوجَدُ ما يَدُلُّ على التَّحريمِ [480] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/817). .
2- مِنَ التَّطبيقاتِ المُعاصِرةِ: جَوازُ التَّورُّقِ، وصورَتُه: أنَّ مَنِ احتاجَ نَقدًا فاشتَرى سِلعةً بالآجِلِ، بقَصدِ بَيعِها بثَمَنٍ حالٍّ، فهَل له أن يَشتَريَ سِلعةً أُخرى مِنَ البائِعِ الأوَّلِ أو مِن غَيرِه بأجَلٍ جَديدٍ ويَبيعَها على غَيرِ البائِعِ الأوَّلِ بثَمَنٍ حالٍّ أيضًا؟
وفي هذه الحالةِ لا يَكونُ سَبَبُ التَّورُّقِ الثَّاني الحُصولَ على نَقدٍ مِنَ الدَّائِنِ الأوَّلِ لسَدادِ الدَّينِ الأوَّلِ والاستِفادةِ مِمَّا يَبقى مِنَ النَّقدِ، ومِثالُه: شَخصٌ أرادَ أن يَتَزَوَّجَ فأجرى عَمَليَّةَ توَرُّقٍ مَعَ مَصرِفٍ ما وحَصَل على مَبلَغٍ يُسَدَّدُ خِلالَ سَنَتَينِ، وبَعدَ سَنةٍ أرادَ أن يَشتَريَ سَيَّارةً فأجرى عَمَليَّةَ تَوَرُّقٍ أُخرى مَعَ المَصرِفِ الأوَّلِ أو مَعَ غَيرِه، وحَصَل على مَبلغٍ يُسَدِّدُه على مَدى سَنةٍ، ولا يَدفَعُ شَيئًا مِنه للمَصرِفِ الأوَّلِ عن دَينِ التَّورُّقِ الأوَّلِ.
والحُكمُ في هذه الحالةِ الجَوازُ؛ لأنَّ تَكييفَ المَسألةِ يُرجِعُها إلى مَسألةِ الشِّراءِ بالآجِلِ مِن بائِعٍ واحِدٍ مَرَّتَينِ، كَمَن يَأخُذُ حاجاتِه مِن مَحَلٍّ ويُسَدِّدُ قيمَتَها في آخِرِ الشَّهرِ، أوِ الشِّراءِ مِن أكثَرَ مِن بائِعٍ، ولا يوجَدُ دَليلٌ يَقتَضي تَحريمَ ذلك أو كَراهَتَه إلَّا مِن جِهةِ ذَمِّ الدَّينِ عُمومًا، وسَعيِ الشَّريعةِ إلى إبراءِ الذِّمَمِ، والأصلُ في العُقودِ الجَوازُ والصِّحَّةُ [481] يُنظر: ((العقود المضافة إلى مثلها)) لعبد الله بن طاهر (ص: 163). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
فوائِدُ:
1- الفَرقُ بَينَ هذه القاعِدةِ وبَينَ قاعِدةِ: (الأصلُ حَملُ العُقودِ على الصِّحَّةِ): أنَّ قاعِدةَ (الأصلُ في العُقودِ الجَوازُ والصِّحَّةُ) أنَّ العَقدَ إذا لم يَرِدْ عنِ الشَّارِعِ ما يَدُلُّ على تَحريمِه فهو صحيحٌ جائِزٌ، فتُستَعمَلُ عِندَ عَدَمِ الخِلافِ والتَّنازُعِ بَينَ المُتَعاقِدَينِ. فإن حَصَل شَكٌّ أنَّ العَقدَ ورَدَ عنِ الشَّارِعِ ما يَدُلُّ على تَحريمِه أم لا، فهو صحيحٌ جائِزٌ شَرعًا. وأمَّا القَولُ بأنَّ (الأصل في العُقودِ حَملُها على الصِّحَّةِ) فمَعنى هذا لو وقَعَ نِزاعٌ بَينَ المُتَعاقِدَينِ هَل العَقدُ صحيحٌ أو فاسِدٌ، وليسَ هناكَ ما يَدُلُّ على قَولِ أحَدِهما فالقَولُ قَولُ مُدَّعي الصِّحَّةِ؛ لأنَّه الأصلُ في العُقودِ، والفَسادُ طارِئٌ على العَقدِ، ولأنَّ الأصلَ في العُقودِ الجاريةِ بَينَ المُسلمينَ الصِّحَّةُ [482] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/825)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (7/143). .
2- قاعِدةُ: (الأصلُ في العُقودِ الجَوازُ والصِّحَّةُ حتَّى يَقومَ دَليلٌ على البُطلانِ والتَّحريمِ) لا تَشمَلُ العِباداتِ؛ فإنَّ الأصلَ في العِباداتِ البُطلانُ حتَّى يَقومَ دَليلٌ على الأمرِ).
والفَرقُ بَينَهما: أنَّ اللَّهَ سُبحانَه لا يُعبَدُ إلَّا بما شَرَعَه على ألسِنةِ رُسُلِه، فإنَّ العِبادةَ حَقُّه على عِبادِه، وحَقُّه الذي أحَقَّه هو ورَضيَ به وشَرَعَه. وأمَّا العُقودُ والشُّروطُ والمُعامَلاتُ فهيَ عَفوٌ حتَّى يُحَرِّمَها؛ ولهذا نَعى اللَّهُ سُبحانَه على المُشرِكينَ مُخالفةَ هَذَينِ الأصلينِ، وهو تَحريمُ ما لم يُحَرِّمْه، والتَّقَرُّبُ إليه بما لم يَشرَعْه. وهو سُبحانَه لو سَكَتَ عن إباحةِ ذلك وتَحريمِه لكان عَفوًا لا يَجوزُ الحُكمُ بتَحريمِه وإبطالهِ؛ فإنَّ الحَلالَ ما أحَلَّه اللهُ، والحَرامَ ما حَرَّمَه، وما سَكَتَ عنه فهو عَفوٌ. فكُلُّ شَرطٍ وعَقدٍ ومُعامَلةٍ سَكَتَ عنها فإنَّه لا يَجوزُ القَولُ بتَحريمِها، فإنَّه سَكَتَ عنها رَحمةً مِنه مِن غَيرِ نِسيانٍ وإهمالٍ [483] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/168). .

انظر أيضا: