المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: الأموالُ الضَّائِعةُ يَقبِضُها القاضي حِفظًا لَها على أربابِها
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأموالُ الضَّائِعةُ يَقبِضُها القاضي حِفظًا لَها على أربابِها"
[6822] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/420). ، وصيغةِ: "الأموالُ الضَّائِعةُ يَقبِضُها الإمامُ حِفظًا لَها على أربابِها"
[6823] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/453). ، وصيغةِ: "القاضي أولى بحِفظِ أموالِ الغائِبينَ والمَفقودينَ، وكُلِّ مالٍ ضائِعٍ في بلادِ الإسلامِ"
[6824] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/41). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ القاضيَ أولى بحِفظِ أموالِ الغائِبينَ والمَفقودينَ، وكُلِّ مالٍ ضائِعٍ في بلادِ الإسلامِ، فمِن واجِباتِ القاضي: حِفظُ أموالِ الأيتامِ والمَجانينِ والعاجِزينَ والغائِبينَ، ومِنها التِقاطُ الأموالِ الضَّائِعةِ والأطفالِ المُهمَلينَ. وكَذلك الأموالُ التي يُجهَلُ مُستَحِقُّها مُطلَقًا أو مُبهَمًا، فما جُهلَ مالِكُه مِنَ الغُصوبِ والعَواريِّ والودائِعِ تُحفَظُ حَتَّى يَظهَرَ أصحابُها كَسائِرِ الأموالِ الضَّائِعةِ.
ثُمَّ إمَّا أن يُبقيَها، وأمَّا أن يَبيعَها ويَحفَظَ ثَمَنَها ولَه حِفظُها مَعزولةً عَن أمثالِها في بَيتِ المالِ، ولَه أن يَخلِطَها بمِثلِها فإذا ظَهَرَ المالِكُ غَرِمَ له مِن بَيتِ المالِ
[6825] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/41)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/158)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/592)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/420)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/453)، ((غاية البيان)) لابن رسلان (ص: 228). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: (بَيتُ المالِ وارِثُ مَن لا وارِثَ لهـ).
ومِن ذلك الأموالُ التي تَؤولُ مِلكيَّتُها للدَّولةِ مِنَ الأفرادِ، ومِثلُ ما يَؤولُ إلى بَيتِ المالِ، كالأموالِ الضَّائِعةِ، أوِ التي لا وارِثَ لها
[6826] يُنظر: ((الفقه الإسلامي)) لوهبة الزحيلي (6/4586). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا ادَّعى إنسانٌ على غَيرِه عَينًا في يَدِه، فأقَرَّ بها لغَيرِه، جُعِلَ -أيِ المُقَرُّ له- الخَصمَ فيها، فإن قال: لَيسَت لي، ولا أعلَمُ لمَن هيَ، فلا تُسَلَّمُ إلى المُدَّعي إلَّا ببَيِّنةٍ؛ لأنَّه لَم يَثبُتْ كَونُه مُستَحِقَّها، وإنَّما يَجعَلُها الحاكِمُ عِندَ أمينٍ؛ لأنَّ ذلك مالٌ ضائِعٌ، والأموالُ الضَّائِعةُ يَحفَظُها الحاكِمُ عِندَ أُمَنائِه
[6827] يُنظر: ((الممتع)) لابن المنجى (4/548-549). .
2- إذا كان مَعَ اللَّقيطِ مالٌ، فالقاضي أولى بالتَّصَرُّفِ في مالِه؛ لأنَّ القاضيَ أولى بحِفظِ أموالِ الغائِبينَ والمَفقودينَ، وكُلِّ مالٍ ضائِعٍ في بلادِ الإسلامِ
[6828] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/41). .
3- إذا وُجِدَ الرِّكازُ في دارِ الإسلامِ أو في دارِ أهلِ العَهدِ وعُرِفَ مالِكُ أرضِه لَم يَكُن رِكازًا ولا يَملِكُه الواجِدُ، بَل يَجِبُ حِفظُه حَتَّى يَجيءَ صاحِبُها فيُدفَعَ إلَيه، فإن أُيِسَ مِن مَجيئِه كان لبَيتِ المالِ كَسائِرِ الأموالِ الضَّائِعةِ
[6829] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/95)، ويُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (2/494)، ((شرح مشكل الوسيط)) لابن الصلاح (3/152). .
4- مَن غَصَبَ أموالًا ثُمَّ تابَ وتَعَذَّرَ عليه رَدُّها إلى أصحابِها أو إلى ورَثَتِهم؛ لجَهلِه بهم أو لانقِراضِهم، فقيلَ: يَدفَعُها إلى الإمامِ أو نائِبِه؛ لأنَّه وكيلُ أربابِها فيَحفَظُها لَهم، ويَكونُ حُكمُها حُكمَ الأموالِ الضَّائِعةِ. وقيلَ: يَتَصَدَّقُ بتلك الأموالِ عَن أربابِها
[6830] يُنظر: ((فتح القريب المجيب)) للفيومي (14/304). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استثناءاتٌ:يُستثنى من القاعِدةِ بعضُ الصُّوَرِ، منها:
1- إذا التَقَطَ رَجُلٌ لُقَطةً كان المُلتَقِطُ أولى بحِفظِها مِنَ القاضي، ولَم يَكُنْ للقاضي انتِزاعُها مِن يَدِه لما ثَبَتَ له بالأخذِ مِنَ الحَقِّ والاختِصاصِ، حَتَّى يَثبُتَ له حَقُّ التَّمَلُّكِ في وقتٍ مَخصوصٍ، ومِثلُ ذلك لا يَثبُتُ على اللَّقيطِ
[6831] قال أبو محمَّد الجوينيُّ: (الفَرقُ بَينَ نَفسِه ومالِه -حينَ عَثَرَ عَلَيه-: أنَّ المُلتَقِطَ لَم يَكُنْ في يَدٍ مُختَصٍّ به، بَل كان خاليًا عَن كُلِّ يَدٍ، فتَثبُتُ له اليَدُ عَلَيه لما اختارَ أن يَلتَقِطَه. وأمَّا المالُ الذي وجَدَه مَعَه فلَيسَ بخالٍ عَنِ اليَدِ؛ لأنَّ يَدَ اللقيطةِ ثابِتةٌ عَلَيه؛ ولِهذا قال الشَّافِعيُّ رَحِمَه الله: "ما وُجِدَ تَحتَ المَنبوذِ مِن شَيءٍ مَدفونٍ مِن ضَربِ الإسلامِ، فإن كان قَريبًا مِنه فهو لُقَطةٌ، وإن كان على دابَّةٍ، أو على فِراشٍ، أو في ثَوبِه مالٌ، فهو لقيطٌ، وإذا ثَبَتَت يَدُ الطِّفلِ في الظَّاهرِ كان ذلك المالُ مُضافًا إلى يَدٍ مَعلومةٍ، والمالُ المُضافُ إلى يَدٍ مَعلومةٍ يَستَحيلُ أن يَكونَ لُقَطةً؛ فلِهذا ألحَقناه بأموالِ أطفالِ بلادِ الإسلامِ الذينَ لا قَيِّمَ لَهم، فيَكونُ التَّصَرُّفُ فيها مُفَوَّضًا إلى القاضي دونَ غَيرِه"). ((الجمع والفرق)) (3/41). .
2- إذا كان المالُ الضَّائِعُ في ذِمَّةِ إنسانٍ بأن جاءَ إلى القاضي، وقال: في ذِمَّتي مالٌ لا أعرِفُ مالِكَه، فلا يُنزَعُ ولا يُنقَلُ مِنَ الذِّمَّةِ إلى الضَّمانِ. وقيلَ: إن خُشيَ مِن بَقائِه في يَدِه أو ذِمَّتِه هَلاكُه انتُزِعَ، ولا يَضُرُّ انقِلابُه مِنَ الضَّمانِ إلى الأمانةِ لهذا الغَرَضِ، وإلَّا فلا، ويَبقى على الحاكِمِ الضَّمانُ
[6832] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/422)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/455). .
دَفعُ استِشكالٍ:قد يورَدُ على هذه القاعِدةِ حَديثُ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ بتَمرةٍ مَسقوطةٍ فقال:
((لَولا أن تَكونَ صَدَقةً لَأكَلتُها )) [6833] أخرجه البخاري (2055) واللفظ له، ومسلم (1071). . فكَيفَ يُقالُ: إنَّ الإمامَ يَأخُذُ المالَ الضَّائِعَ للحِفظِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَأخُذْها؟
والجَوابُ عَن ذلك: أنَّ الإمامَ إنَّما يَأخُذُ المالَ الضَّائِعَ الذي صاحِبُه مُتَطَلِّعٌ له، أمَّا ما يُعرَضُ عَنه فيُترَكُ لكُلِّ مَن يُريدُ أخذَه. ومِن ثَمَّ لَم يَجِبْ في اللُّقَطةِ تَعريفُ ما انتَهى إلَيه في القِلَّةِ إلى حَدٍّ يُسقِطُ تَمَوُّلَه، كَحَبَّةِ حِنطةٍ. وبِذلك ظَهَرَ استِثناءُ الحَقيرِ الذي يَغلِبُ على الظَّنِّ إعراضُ صاحِبِه عَنه مِنَ القاعِدةِ، فلا يَأخُذُه القاضي للحِفظِ، ولا يُعَرِّفُه المُلتَقِطُ إذا التَقَطَه
[6834] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/420)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/453). .