المَطلَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: ليس للقاضي وِلايةُ التَّصَرُّفِ إلَّا فيما فيه نَظَرٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ليس للقاضي وِلايةُ التَّصَرُّفِ إلَّا فيما فيه نَظَرٌ"
[6788] يُنظر: ((القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير)) لعلي الندوي (ص: 493). ، وصيغةِ: "ليس للقاضي أن يَتَصَرَّفَ إلَّا فيما يَجوزُ للإمامِ أن يَتَصَرَّفَ فيه"
[6789] يُنظر: ((روضة القضاة)) لابن السمناني (1/31). ، وصيغةِ: "ليس للقاضي أن يُبطِلَ حُكمَ قاضٍ آخَرَ في المُجتَهَداتِ"
[6790] يُنظر: ((العقود الدرية)) لابن عابدين (1/303). ، وصيغةِ: "ليس للقاضي أن يَحكُمَ إلَّا بما يَصِحُّ أن يَكونَ حُكمًا مِنَ الشَّارِعِ"
[6791] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/189). ، وصيغةِ: "ليس للقاضي أن يُقدِمَ على حُكمٍ بخِلافِ ما قد علِمَ"
[6792] يُنظر: ((أدب القاضي)) لابن القاص (1/147). ويُنظر أيضًا: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/427). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ القاضيَ لا يَتَصَرَّفُ إلَّا فيما يَرجِعُ إلى اختِصاصِه، وليس له وِلايةُ التَّصَرُّفِ إلَّا فيما فيه نَظَرٌ واجتِهادٌ، فيَتَقَيَّدُ باللَّوائِحِ المُنَظِّمةِ لعَمَلِ القُضاةِ، ثُمَّ هناكَ قاضٍ، وهناكَ مَجلِسٌ أعلى للقَضاءِ، فلَه صَلاحيَّاتٌ مَحدودةٌ يَقِفُ عِندَها.
ولِلقاضي اختِصاصاتٌ يُمكِنُ أن تُحَدَّدَ في مَجالِ قَضايا مُعَيَّنةٍ كالجِناياتِ، وكَذلك يُمكِنُ أن يُخَصَّصَ له مَكانٌ مُعَيَّنٌ لا يَتَعَدَّاه إلى غَيرِه؛ لأنَّ هذه أُمورٌ تَخضَعُ للمَصلَحةِ، وما يَكونُ مُناسِبًا لعَصرٍ قد لا يَكونُ مُناسِبًا لعَصرٍ آخَرَ، فكُلُّ عَصرٍ يُنَظِّمُ القَضاءَ بما يَتَلاءَمُ مَعَ ظُروفِه والمُستَجَدَّاتِ التي قد تَتَطَلَّبُ نَوعًا مِنَ النِّظامِ لَم يَكُنْ مُطبِقًا في عُصورٍ سابِقةٍ. واختِصاصاتُ القاضي تَتَحَدَّدُ بالزَّمانِ، والمَكانِ، والنَّوعِ، والمَوضوعِ:
1- التَّخَصُّصُ الزَّمانيُّ: وهو أن يَتَخَصَّصَ القاضي بالنَّظَرِ في وقتٍ مُعَيَّنٍ، كَأيَّامٍ مُحَدَّدةٍ في الأُسبوعِ. وهو حالةٌ مِن حالاتِ اختِصاصِ القاضي المُحَدَّدِ الوِلايةِ.
2- التَّخَصُّصُ المَكانيُّ: وهو تَقييدُ القاضي بالقَضاءِ في بَلدةٍ مُعَيَّنةٍ أو أكثَرَ، أو ناحيةٍ مِن بَلَدٍ مُعَيَّنٍ.
3- التَّخَصُّصُ النَّوعيُّ: وهو تَخصيصُ القاضي عِندَ تَعيينِه أو بَعدَه ببَعضٍ مُعَيَّنٍ مِنَ القَضايا، كما هو الحادِثُ الآنَ في دَوائِرِ المُنازَعاتِ المَدَنيَّةِ، والأحوالِ الشَّخصيَّةِ، والتِّجاريَّةِ، والجِنائيَّةِ ونَحوِها.
4- التَّخَصُّصُ المَوضوعيُّ: وهو الاقتِصارُ على سَماعِ دَعاوى مَوضوعاتٍ مُعَيَّنةٍ، والمَنعُ مِن سَماعِ دَعاوى أُخرى، كَدَعوى الوقفِ أوِ الإرثِ، بسَبَبِ مُضيِّ المُدَّةِ أوِ التَّقادُمِ الطَّويلِ الأمَدِ بلا عُذرٍ؛ لأنَّ تَركَ الادِّعاءِ مَعَ الإمكانِ يَدُلُّ على عَدَمِ الحَقِّ ظاهرًا
[6793] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (8/6246)، ((النظام القضائي)) لرأفت عثمان (ص: 50)، ((بغية المقتصد)) للوائلي (16/9953). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ، والمَعقولِ:
1- مِنَ الإجماعِ:فقد نُقِلَ الإجماعُ في بَعضِ صورِ القاعِدةِ، وهو أنَّ القاضيَ ليس له أن يَقضيَ بخِلافِ عِلمِه. ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ القَطَّانِ
[6794] قال: (اتَّفَقوا على أنَّه ليس للقاضي أن يَحكُمَ بما عَدا عِلمَه وإقرارَ المَحكومِ عَلَيه، أو ما قامَت به بَيِّنةٌ). ((الإقناع)) (2/147). .
2- مِنَ المعقولِ:وهو أنَّ القَضاءَ وِلايةٌ؛ فصَحَّت عُمومًا وخُصوصًا كالوكالةِ، والوكالةُ يَجوزُ أن تَكونَ عامَّةً وخاصَّةً، فإن كانت خاصَّةً بوقتٍ، أو عَمَلٍ، أو تَصَرُّفٍ أو قَيدٍ، فيَجِبُ على الوكيلِ الالتِزامُ بحُدودِ وكالَتِه؛ لأنَّه نائِبٌ عَن موكِّلِه فيما حَدَّدَه له، وكَذلك القاضي نائِبٌ عَنِ الإمامِ فيَتَعَيَّنُ عليه الالتِزامُ بما حُدِّدَ له مِن صَلاحيَّاتٍ
[6795] يُنظر: ((معلمة زايد)) (20/25). ويُنظر أيضًا: ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 68). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- ليس للقاضي وِلايةُ نَصبِ الأوصياءِ، ولا وِلايةُ نَصبِ قَيِّمِ الأوقافِ، إذا لَم يَكُنْ في اختِصاصِه ذلك
[6796] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (8/272). .
2- ليس للقاضي أن يُزَوِّجَ امرَأةً خارِجةً عَن مَحَلِّ وِلايَتِه، فإذا كانتِ المَرأةُ خارِجةً عَن وِلايةِ القاضي لَم يَجُزْ له إنكاحُها إلَّا إذا دَخَلَت في مَحَلِّ وِلايَتِه
[6797] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (12/539)، ((التوضيح)) لخليل (7/458). .
3- ليس للقاضي أن يَستَخلِفَ على القَضاءِ أو أن يولِّيَ القَضاءَ غَيرَه إلَّا إذا كان مَكتوبًا في مَنشورِه ذلك، أو قيلَ له: ما صَنَعتَ مِن شَيءٍ فهو جائِزٌ، فإن ولَّى غَيرَه مِن غَيرِ هذا يَكونُ قَضاؤُه مَوقوفًا على إجازةِ الأوَّلِ
[6798] يُنظر: ((منحة الخالق)) لابن عابدين (7/6)، ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (8/100)، ((اللباب)) للميداني (4/87). .
4- إذا كان الزِّنا مِن مُحصَنَينِ فالجَريمةُ مِن اختِصاصِ مَحاكِمِ الجِناياتِ؛ لأنَّ العُقوبةَ المُقَرَّرةَ للزِّنا هيَ الرَّجمُ أيِ القَتلُ بطَريقٍ مُعَيَّنٍ، والحُكمُ بعُقوبةِ القَتلِ مِن اختِصاصِ مَحاكِمِ الجِناياتِ، وليس مِن اختِصاصِ القاضي الجُزئيِّ. وإذا كان أحَدُ الزَّانيَينِ غَيرَ مُحصَنٍ، فالاختِصاصُ لمَحاكِمِ الجِناياتِ أيضًا؛ لأنَّ فِعلَ الزِّنا لا يُمكِنُ تَجزِئَتُه، ووحدةُ الفِعلِ المَنسوبِ للزَّانيَينِ تَقتَضي أن يُحاكَما عليه أمامَ مَحكَمةٍ واحِدةٍ، ولِأنَّ القاضيَ الجُزئيَّ لا يَملِكُ عِقابَ الزَّاني المُحصَنِ، وإن كان له أن يُعاقِبَ الزَّانيَ غَيرَ المُحصَنِ، أمَّا مَحكَمةُ الجِناياتِ فتَملِكُ عِقابَ الزَّاني المُحصَنِ بالرَّجمِ، وتَملِكُ أن تُعاقِبَ بما هو أدنى مِنَ الرَّجمِ كالجَلدِ؛ لأنَّ مَن يَملِكُ الأكثَرَ يَملِكُ الأقَلَّ
[6799] يُنظر: ((التشريع الجنائي)) لعبد القادر عودة (1/241). .