موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: التَّشريكُ في النِّيَّةِ مُفسِدٌ لها


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّشريكُ في النِّيَّةِ مُفسِدٌ لها" [6299] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (2/9). ، وصيغةِ: "التَّشريكُ في النِّيَّةِ مُفسِدٌ للعِبادةِ" [6300] يُنظر: ((مجمع بحار الأنوار)) للكجراتي (5/534). ، وصيغةِ: "الجَمعُ بَينَ عِبادَتَينِ إمَّا أن يَكونَ في الوسائِلِ، أو في المَقاصِدِ؛ فإن كان في الوسائِلِ فالكُلُّ صَحيحٌ، وإن كان في المَقاصِدِ فعَلى التَّفصيلِ" [6301] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 34). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
ليس المَقصودُ بالتَّشريكِ هنا ما يُنافي الإخلاصَ، كَأن يُصَلِّيَ الصَّلاةَ يَقصِدُ بها وجهَ اللهِ وثَناءَ النَّاسِ ومَديحَهم، وإنَّما المُرادُ هنا أن يَقصِدَ بالعَمَلِ الواحِدِ قُربَتَينِ، كَأن يَنويَ بالصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ قَضاءَ فائِتةٍ وفَريضةَ الوقتِ الحاضِرِ.
وضابِطُ التَّشريكِ في النِّيَّةِ يَتَّضِحُ في الأقسامِ التَّاليةِ:
الأوَّلُ: أن يَنويَ مَعَ العِبادةِ ما ليس بعِبادةٍ: فقد يُبطِلُها، كما إذا ذَبَحَ الأُضحيَّةَ للهِ ولغَيرِه، فانضِمامُ غَيرِه يوجِبُ حُرمةَ الذَّبيحةِ.
وقد لا يُبطِلُها، كما لَو نَوى مَعَ الوُضوءِ أوِ الغُسلِ التَّبَرُّدَ، فقيلَ بالصِّحَّةِ؛ لأنَّ التَّبَرُّدَ حاصِلٌ، قَصَدَه أم لا، فلَم يُجعَلْ قَصدُه تَشريكًا للعِبادةِ مَعَ غَيرِها وتَركًا للإخلاصِ، بَل هو قَصدٌ للعِبادةِ على حَسَبِ وُقوعِها؛ لأنَّ مِن ضَرورَتِها حُصولَ التَّبَرُّدِ.
الثَّاني: أن يَنويَ مَعَ العِبادةِ المَفروضةِ عِبادةً أُخرى مَندوبةً، وفيه صُورٌ: مِنها: ما لا يَقتَضي البُطلانَ ويَحصُلانِ مَعًا. ومِنها: ما يَحصُلُ الفَرضُ فقَط. ومِنها: ما يَحصُلُ النَّفلُ فقَط. ومِنها: ما يَقتَضي البُطلانَ في الكُلِّ. وبَيانُ هذه الصورِ على النَّحوِ التَّالي:
1- ما لا يَقتَضي البُطلانَ، وتَحصُلانِ مَعًا: كَأن أحرَمَ بصَلاةٍ، ونَوى بها الفَرضَ وتَحيَّةَ المَسجِدِ مَعًا، حَصَلا مَعًا؛ لأنَّ الفَرضَ والتَّحيَّةَ قُربَتانِ. إحداهما: تَحصُلُ بلا قَصدٍ، فلا يَضُرُّ فيها القَصدُ، كما لَو رَفَعَ الإمامُ صَوتَه بالتَّكبيرِ ليُسمِعَ المَأمومينَ، فإنَّ صَلاتَه صَحيحةٌ بالإجماعِ، وإن كان قَصَدَ أمرَينِ، لَكِنَّهما قُربَتانِ.
2- ما يَحصُلُ الفَرضُ فقَط: كَأن نَوى بحَجِّه الفَرضَ والتَّطَوُّعَ، وقَعَ فرضًا؛ لأنَّه لَو نَوى التَّطَوُّعَ انصَرَفَ إلى الفَرضِ. وكَذا لَو صَلَّى الفَريضةَ الفائِتةَ في لَيالي رَمَضانَ، ونَوى مَعَها التَّراويحَ، حَصَلَتِ الفائِتةُ دونَ التَّراويحِ.
3- ما يَحصُلُ النَّفلُ فقَط: كَأن أخرَجَ خَمسةَ دَراهمَ، ونَوى بها الزَّكاةَ وصَدَقةَ التَّطَوُّعِ، لَم تَقَع زَكاةً، ووقَعَ التَّطَوُّعُ. وكَذا لَو خَطَبَ بقَصدِ الجُمُعةِ والكُسوفِ، لَم يَصِحَّ للجُمُعةِ؛ لأنَّه تَشريكٌ بَينَ فرضٍ ونَفلٍ.
4- ما يَقتَضي البُطلانَ في الكُلِّ: كَأن نَوى بصَلاتِه الفَرضَ والرَّاتِبةَ، لَم تَنعَقِدْ أصلًا؛ للتَّشريكِ.
الثَّالِثُ: أن يَنويَ مَعَ المَفروضةِ فرضًا آخَرَ، ويَجري ذلك في الحَجِّ والعُمرةِ، والغُسلِ والوُضوءِ مَعًا، فإنَّهما يَحصُلانِ على الأصَحِّ.
الرَّابِعُ: أن يَنويَ مَعَ النَّفلِ نَفلًا آخَرَ، فلا يَحصُلانِ؛ لأنَّ السُّنَّتَينِ إذا لَم تَدخُلْ إحداهما في الأُخرى لا تَنعَقِدانِ عِندَ التَّشريكِ بَينَهما، كَسُنَّةِ الضُّحى وقَضاءِ سُنَّةِ الفَجرِ. فإن دَخَلَت إحداهما في الأُخرى كَتَحيَّةِ المَسجِدِ وسُنَّةِ الظُّهرِ مَثَلًا، صَحَّ؛ لأنَّ التَّحيَّةَ تَحصُلُ ضِمنًا. ويُستَثنى مِن ذلك: ما لَو نَوى الغُسلَ للجُمُعةِ والعيدِ، فإنَّهما يَحصُلانِ، وما لَو خَطَبَ خُطبَتَينِ بقَصدِ العيدِ والكُسوفِ جَميعًا، فإنَّه يَصِحُّ. وما لَو نَوى صَومَ يَومِ عَرَفةَ والاثنَينِ مَثَلًا، فيَصِحُّ.
الخامِسُ: أن يَنويَ مَعَ غَيرِ العِبادةِ شَيئًا آخَرَ، وهما مُختَلِفانِ في الحُكمِ، كَأن يَقولَ لزَوجَتِه: أنتِ عليَّ حَرامٌ. ويَنويَ الطَّلاقَ والظِّهارَ، فيُخَيَّرُ بَينَهما، فما اختارَه ثَبَتَ.
والأصلُ: ألَّا يَصِحَّ التَّشريكُ في العِبادةِ، إلَّا ما استُثنيَ كما سَبَقَ [6302] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 20)، ((مقاصد المكلفين)) لعمر الأشقر (ص: 255)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (1/190)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/79). ويُنظر أيضًا: ((حاشية الشرواني على تحفة المحتاج)) (2/12)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/457)، ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) (1/333)، ((شرح رسالة لطيفة جامعة)) لخالد المشيقح (ص: 237). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى )) [6303] أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907). .
- وعَن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أرَأيتَ رَجُلًا غَزا يَلتَمِسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما له؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له، فأعادَها ثَلاثَ مَرَّاتٍ، يَقولُ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له، ثُمَّ قال: إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِنَ العَمَلِ إلَّا ما كان له خالِصًا، وابتُغيَ به وَجهُه )) [6304] أخرجه من طرقٍ: النسائي (3140) واللفظ له، والطبراني (8/165) (7628). حسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (8)، وجوَّد إسنادَه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/81)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (6/35)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (4/68)، وحسَّنه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/112). .
وَجهُ الدَّلالةِ من الحديثَينِ:
يَدُلُّ الحَديثانِ على أنَّ الأصلَ أنَّ التَّشريكَ في النِّيَّةِ مُفسِدٌ للعِبادةِ، وأنَّ اللهَ تَعالى لا يَقبَلُ مِنَ العَمَلِ إلَّا ما كان له خالِصًا وابتُغيَ به وَجهُه [6305] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (2/9)، ((مجمع بحار الأنوار)) للكجراتي (5/534)، ((ذخيرة العقبى)) للأثيوبي (2/244). .
2- مِنَ الإجماعِ:
وقد حَكاه السُّيوطيُّ في بَعضِ صُورِ القاعِدةِ، وهو ما إذا نَوى مَعَ العِبادةِ المَفروضةِ عِبادةً أُخرى مَندوبةً، فيَحصُلُ النَّفلُ فقَط [6306] قال: (أخرَجَ خَمسةَ دَراهمَ، ونَوى بها الزَّكاةَ وصَدَقةَ التَّطَوُّعِ، لَم تَقَعْ زَكاةً ووقَعَت صَدَقةَ تَطَوُّعٍ بلا خِلافٍ). ((الأشباه والنظائر)) (ص: 22). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا نَوى مَعَ العِبادةِ المَفروضةِ عِبادةً أُخرى مَندوبةً، ولا يَقتَضي البُطلانَ، بَل تَحصُلانِ مَعًا: كَمَن نَوى بغُسلِه غُسلَ الجَنابةِ والجُمُعةِ مَعًا، حَصَلا جَميعًا على الصَّحيحِ. ولَو حَجَّ الفَرضَ وقَرَنَه بعُمرةِ التَّطَوُّعِ، أو عَكسَه، حَصَلا [6307] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 22)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (1/190). .
2- إذا نَوى مَعَ العِبادةِ المَفروضةِ عِبادةً أُخرى مَندوبةً، ويَقتَضي البُطلانَ في الكُلِّ، كما إذا كَبَّرَ المَسبوقُ، والإمامُ راكِعٌ تَكبيرةً واحِدةً، ونَوى بها التَّحَرُّمَ والهويَّ إلى الرُّكوعِ، لَم تَنعَقِدِ الصَّلاةُ أصلًا؛ للتَّشريكِ [6308] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 22)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (1/190). .

انظر أيضا: