الفَرعُ الأوَّلُ: الأصلُ عَدَمُ الإكراهِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ عَدَمُ الإكراهِ"
[5890] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (6/426)، ((المغني)) لابن قدامة (6/285)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/335). ، وصيغةِ: "أصلُ الفِعلِ حُدوثُه عَنِ اختيارِ فاعِلِه"
[5891] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/126). ، وصيغةِ: "الأصلُ عَدَمُ الإكراهِ، إلَّا أن يَكونَ هناكَ دَلالةٌ على الإكراهِ"
[5892] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/ 264). ، وصيغةِ: "أفعالُ المُكَلَّفينَ تُحمَلُ على الطَّوعِ حَتَّى يَثبُتَ خِلافُه"
[5893] يُنظر: ((شرح الخرشي على مختصر خليل)) (8/ 70). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.الإكراهُ هو حَملُ الغَيرِ على أمرٍ يَمتَنِعُ عَنه بتَخويفٍ يَقدِرُ الحامِلُ على إيقاعِه، ويَصيرُ الغَيرُ خائِفًا به، والأصلُ في تَصَرُّفاتِ الإنسانِ قَولًا كانت أو فِعلًا أن تَقَعَ بناءً على اختيارِه وطَواعيَّتِه، وأمَّا وُقوعُها على سَبيلِ الإكراهِ السَّابِقِ بَيانُه فأمرٌ نادِرٌ، وهو خِلافُ الأصلِ؛ إذِ الأصلُ في التَّصَرُّفاتِ صُدورُها عَن إرادةِ أصحابِها واختيارِهم لوُقوعِها، فلا يَثبُتُ الإكراهُ حينَئِذٍ إلَّا ببَيِّنةٍ؛ لكَونِه على خِلافِ الأصلِ، ويُقدَّمُ قَولُ مُنكِرِ الإكراهِ على قَولِ مُثبِتِه؛ لكَونِ مُنكِرِ الإكراهِ على وفقِ الأصلِ، ويُطالَبُ حينَئِذٍ مَن يَدَّعي الإكراهَ بالبَيِّنةِ على دَعواه
[5894] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (6/426)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/126)، ((المغني)) لابن قدامة (6/285)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/335)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/383). .
وهذه القاعِدةُ "الأصلُ عَدَمُ الإكراهِ" أصلٌ عامٌّ يُبَيِّنُ أنَّ الإنسانَ مَسؤولٌ عَن تَصَرُّفاتِه القَوليَّةِ والفِعليَّةِ، فإذا وقَعَ الإكراهُ فإنَّ تَصَرُّفاتِه تَسقُطُ كما في القاعِدةِ الأُمِّ "الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ فِعلًا كان أم قَولًا".
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: (الأصلُ في الصِّفاتِ العارِضةِ أوِ الحادِثةِ العَدَمُ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعدةِ:
1- إذا كان لطائِفةٍ مِنَ المُشرِكينَ عَهدٌ بأمانٍ مُتَقدِّمٍ، فاستَعانَ بهم أهلُ البَغيِ على قِتالِنا، كان ذلك نَقضًا لأمانِهم إذا قاتَلونا؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال: 58] ، فلَمَّا جازَ أن يُنبَذَ إلَيهم عَهدُهم بنَقضِه إذا خِفناهم كان أولى أن يُنقَضَ بقِتالِهم، فإنِ ادَّعَوُا الإكراهَ كُلِّفوا البَيِّنةَ، فإن أقاموا على إكراهِ أهلِ البَغيِ لَهم على قِتالِنا بَيِّنةً كانوا على عَهدِهم، وإن لَم يُقيموها لَم تُقبَلْ دَعواهم، وانتَقَضَ عَهدُهم؛ لأنَّ الأصلَ في الفِعلِ حُدوثُه عَنِ اختيارِ فاعِلِه
[5895] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/126،125). .
2- إنِ اختَلَفَ اثنانِ فيما يُفسِدُ العَقدَ، بأن قال: بعتُكَ مُكرَهًا، فأنكَرَه، فالقَولُ قَولُ المُشتَري؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الإكراهِ، وصِحَّةُ البَيعِ
[5896] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/285). .
3- مَن أقَرَّ بحَقٍّ ثُمَّ ادَّعى أنَّه كان مُكرَهًا، لَم يُقبَلْ قَولُه إلَّا ببَيِّنةٍ، سَواءٌ أقَرَّ عِندَ السُّلطانِ أو عِندَ غَيرِه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الإكراهِ، إلَّا أن يَكونَ هناكَ دَلالةٌ على الإكراهِ، كالقَيدِ والحَبسِ، فيَكونُ القَولُ قَولَه مَعَ يَمينِه؛ لأنَّ هذه الحالَ تَدُلُّ على الإكراهِ
[5897] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/264)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (11/512). .
4- إن قال الزَّوجُ المُخالِعُ: أكرَهتُها على الخُلعِ فأنكَرَت، رُدَّ عليها المالُ لإقرارِه بإكراهِها، ولا رَجعةَ له عليها لإنكارِها الإكراهَ، والأصلُ عَدَمُ الإكراهِ، فكان قَولُها موافِقًا للأصلِ
[5898] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (3/262). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.فوائدُ:1- ذَكَرَ بَعضُ العُلَماءِ نَماذِجَ للدَّلالاتِ الحاليَّةِ على أنَّ التَّصَرُّفَ صادِرٌ عَن إكراهٍ للشَّخصِ، مِنها: دَلالةُ القَيدِ، ودَلالةُ الحَبسِ، والتَّنكيلُ به، والوضعُ تَحتَ الحِراسةِ
[5899] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/ 264)، ((شرح المنتهى)) لابن النجار (11/ 512). .
2- إذا قامَت بَيِّنةٌ تَدُلُّ على أنَّ التَّصَرُّفَ كان بالإكراهِ، وبَيِّنةٌ أُخرى أيضًا تَدُلُّ على أنَّ التَّصَرُّفَ كان طَوعًا، فقيلَ: تُقدَّمُ بَيِّنةُ الإكراهِ على بَيِّنةِ الطَّواعيةِ؛ لأنَّ مَعَ بَيِّنةِ الإكراهِ زيادةَ عِلمٍ
[5900] يُنظر: ((شرح المنتهى)) لابن النجار (11/ 512). .