موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: كُلُّ حُكمٍ يَتَعَلَّقُ بالرِّضا والِاختيارِ لا يَثبُتُ مَعَ الهَزلِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ حُكمٍ يَتَعَلَّقُ بالرِّضا والِاختيارِ لا يَثبُتُ مَعَ الهَزلِ" [5918] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/358). ، وصيغةِ: "الهَزلُ يُنافي القَصدَ لا مَحالةَ" [5919] يُنظر: ((تكملة فتح القدير)) لقاضي زاده (9/ 256). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
الهازِلُ هو الذي يَتَكَلَّمُ بالكَلامِ مِن غَيرِ قَصدٍ لموجِبِه وحَقيقَتِه، بَل على وجهِ اللَّعِبِ، ونَقيضُه الجادُّ، والأحكامُ الشَّرعيَّةُ التي يُشتَرَطُ لصِحَّتِها وجودُ رِضًا واختيارٍ حَقيقيٍّ مِنَ الشَّخصِ، لا تُعتَبَرُ صَحيحةً أو نافِذةً إذا قامَ بها الشَّخصُ على سَبيلِ الهَزلِ أوِ المُزاحِ، دونَ قَصدٍ حَقيقيٍّ لإيقاعِها، والسَّبَبُ في ذلك أنَّ الرِّضا والِاختيارَ هما أساسُ انعِقادِ هذه الأحكامِ، والهَزلُ يُنافي اختيارَ الحُكمِ والرِّضا به، أمَّا الأحكامُ المُتَعَلِّقةُ بالسَّبَبِ، والتي لا يَتَوقَّفُ ثُبوتُها على الرِّضا والِاختيارِ، فإنَّها تَثبُتُ مَعَ الهَزلِ [5920] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/622)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/358،357). .
وهذه القاعِدةُ الفَرعيَّةُ تُفيدُ أنَّ الهازِلَ غَيرُ قاصِدٍ للتَّصَرُّفِ، وتعتَبِرُه فاقِدًا للقَصدِ والِاختيارِ، فإنَّ تَصَرُّفاتِه تَسقُطُ كما تَسقُطُ تَصَرُّفاتُ المُكرَهِ في القاعِدةِ الأُمِّ "الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ فِعلًا كان أم قَولًا". وكَما في قاعِدةٍ أُخرى: (الإكراهُ يُنافي القَصدَ كما يَنفيه الهَزلُ) [5921] يُنظر: ((شرح مختصر الكرخي)) للقدوري (8/ 374). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ المَعقولُ:
وهو أنَّ الهَزلَ يُنافي اختيارَ الحُكمِ والرِّضا به، فلا تَصِحُّ حينَئِذٍ العُقودُ المَبنيَّةُ على الرِّضا إذا جاءَت على سَبيلِ الهَزلِ [5922] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/357). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعدةِ:
1- لا يَصِحُّ بَيعُ الهازِلِ؛ لأنَّه مُتَكَلِّمٌ بكَلامِ البَيعِ لا على إرادةِ حَقيقَتِه، فلَم يوجَدِ الرِّضا بالبَيعِ، فلا يَصِحُّ [5923] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (8/480)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/176)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/619). .
2- الهَزلُ يُبطِلُ الإقرارَ سَواءٌ كان إقرارًا بما يَحتَمِلُ الفَسخَ، نَحوُ الإقرارِ بالبَيعِ والإجارةِ بأن تَواضَعا على أن يُقِرَّ عِندَ النَّاسِ بالبَيعِ، ولَكِن لا يَكونُ كذلك، أو بما لا يَحتَمِلُه كالطَّلاقِ والعتاقِ بأن تَواضَعا على أن يُقِرَّ عِندَ النَّاسِ بالطَّلاقِ والعتاقِ، وهو ليس كذلك- فلا يَثبُتُ واحِدٌ منهما [5924] يُنظر: ((الكافي)) للسغناقي (5/2387). .
3- لَو أنَّ رَجُلًا قال لامرَأةٍ، ووليِّها، أو قال لوليِّها دونَها: إنِّي أُريدُ أن أتَزَوَّجَ فُلانةَ على ألفِ دِرهَمٍ، وتُسَمِّي في العَلَنِ ألفَينِ، لَكِنَّ المَهرَ ألفٌ، فقال الوليُّ: نَعَم أفعَلُ، فتَزَوَّجَها على ألفَينِ عَلانيةً، كان النِّكاحُ جائِزًا، والصَّداقُ ألفُ دِرهَمٍ إذا تَصادَقا على ما قالا في السِّرِّ، أو قامَت به البَيِّنةُ؛ لأنَّهما قَصَدا الهَزلَ بذِكرِ أحَدِ الألفَينِ، والمالُ مَعَ الهَزلِ لا يَجِبُ، وصارَ ذِكرُ أحَدِ الألفَينِ على وجهِ الهَزلِ بمَنزِلةِ شَرطٍ فاسِدٍ، والشَّرطُ الفاسِدُ في النِّكاحِ لا يُؤَثِّرُ في أصلِ العَقدِ، ولا في الصَّداقِ [5925] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/125). .
4- الإجارةُ تَفتَقِرُ إلى الرِّضا، فلا تَثبُتُ مَعَ الهَزلِ، فلَو آجَرَه هازِلًا لا تَثبُتُ الإجارةُ لافتِقارِها إلى الرِّضا، والهَزلُ يُنافي الرِّضا [5926] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/358). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
تنبيهٌ:
قيل: شَرطُ ثُبوتِ الهَزلِ واعتِبارِه في التَّصَرُّفاتِ أن يَكونَ صَريحًا مَشروطًا باللِّسانِ بأن تَقولَ: إنِّي أبيعُ هذا الشَّيءَ هازِلًا، أو أتَصَرَّفُ التَّصَرُّفَ الفُلانيَّ هازِلًا، ولا يُكتَفى فيه بدَلالةِ الحالِ [5927] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/622)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/358،357). .

انظر أيضا: