موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: الإكراهُ بحَقٍّ كالطَّوعِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الإكراهُ بحَقٍّ كالطَّوعِ" [5901] يُنظر: ((المعيار المعرب)) للوزاني (2/360). ، وصيغةِ: "الإكراهُ الشَّرعيُّ كالطَّوعِ" [5902] يُنظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/134). ، وصيغةِ: "ما يَلزَمُ في حالِ الطَّواعيةِ يَصِحُّ مَعَ الإكراهِ عليه" [5903] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (8/556). ، وصيغةِ: "ما يَلزَمُ الشَّخصَ في حالِ الطَّواعيةِ يَصِحُّ مَعَ الإكراهِ، وما لا فلا" [5904] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/194). ، وصيغةِ: "ما أُكرِهَ عليه إن كان بحَقٍّ صَحَّ أو بغَيرِ حَقٍّ فلا" [5905] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/194). ، وصيغةِ: "الإكراهُ بحَقٍّ لا أثَرَ له في عَدَمِ النُّفوذِ" [5906] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 211). ، وصيغةِ: "الإكراهُ بحَقٍّ كَلا إكراهٍ" [5907] يُنظر: ((حاشية الشربيني على الغرر البهية)) (2/241). ، وصيغةِ: "الفِعلُ مَعَ الإكراهِ بحَقٍّ كالفِعلِ مَعَ الاختيارِ" [5908] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) للشرواني (10/ 392). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
الإكراهُ يَمنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفاتِ القَوليَّةِ والفِعليَّةِ إلَّا إذا كان هذا الإكراهُ بحَقٍّ، بأن كان مِن جِهةٍ شَرعيَّةٍ ومُعتَبَرةٍ لتَحقيقِ غَرَضٍ مَشروعٍ، مِثلُ إلزامِ القاضي لشَخصٍ بأداءِ حَقٍّ واجِبٍ، أو تَنفيذِ حُكمٍ شَرعيٍّ، فإنَّه يَكونُ صَحيحًا؛ فالتَّصَرُّفاتُ القَوليَّةُ المَحمولُ عليها بالإكراهِ بغَيرِ حَقٍّ تَقَعُ باطِلةً لاغيةً، والتَّصَرُّفاتُ القَوليَّةُ المَحمولُ عليها بالإكراهِ بحَقٍّ تَقَعُ صَحيحةً وتَكونُ مُعتَبَرةً، وما لا يَلزَمُ المُكَلَّفَ في حالِ الطَّواعيةِ لا يَصِحُّ مِنه إذا أتى به مُكرَهًا، وما يَلزَمُ المُكَلَّفَ فِعلُه في حالِ الطَّواعيةِ يَصِحُّ مَعَ الإكراهِ عليه [5909] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (8/556)، ((المغني)) لابن قدامة (10/351)، ((المنثور)) للزركشي (1/194)، ((القواعد)) للحصني (2/310)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 211)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/134). .
وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ الفَرعيَّةُ (الإكراهُ بحَقٍّ كالطَّوعِ) استِثناءً مِن قاعِدةِ: "الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ فِعلًا كان أم قَولًا"، فصورَتُها صورةُ إكراهٍ، لَكِنَّها في الحَقيقةِ لَها حُكمُ الطَّواعيةِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن مُعاويةَ بنِ حَيدةَ القُشَيريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((في كُلِّ سائِمةِ إبِلٍ، في أربَعينَ بنتُ لَبونٍ، لا يُفَرَّقُ إبِلٌ عَن حِسابِها، مَن أعطاها مُؤتَجِرًا فلَه أجرُها، ومَن مَنَعَها فإنَّا آخِذوها وشَطرَ مالِه، عَزمةٌ مِن عَزَماتِ رَبِّنا عَزَّ وجَلَّ، ليس لآلِ مُحَمَّدٍ مِنها شَيءٌ )) [5910] أخرجه أبو داود (1575) واللفظ له، والنسائي (2449)، وأحمد (20016). صحَّحه علي بن المديني والإمام أحمد كما في ((تهذيب السنن)) لابن القيم (4/453)، وابن خزيمة في ((صحيحهـ)) (4/31)، ومحمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (3/141)، وابن القيم في ((الطرق الحكمية)) (226). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
بَيَّنَ الحَديثُ أنَّ مَن مَنَعَ الزَّكاةَ وقدَرَ الإمامُ على أخذِها مِنه، فإنَّه يَأخُذُها مِنه قَهرًا، وهو مَضمونُ القاعِدةِ [5911] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/34،33)، ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (1/390)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (7/500). .
2- مِنَ الإجماعِ:
فيُستَدَلُّ بإجماعاتٍ نَقَلَها العُلَماءُ وتَدُلُّ على جَوازِ الإكراه بحَقٍّ، ومِنها:
قَولُ النَّوويِّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّه لَو كان عِندَ إنسانٍ طَعامٌ واضطُرَّ النَّاسُ إلَيه، ولَم يَجِدوا غَيرَه، أُجبِرَ على بَيعِه؛ دَفعًا للضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ) [5912] ((شرح صحيح مسلم)) (11/ 43). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (ومَن كان قادِرًا على وفاءِ دَينِه وامتَنَعَ أُجبِرَ على وفائِه بالضَّربِ والحَبسِ، ونَصَّ على ذلك الأئِمَّةُ مِن أصحابِ مالِكٍ والشَّافِعيِّ وأحمَدَ وغَيرِهم... ولا أعلَمُ فيه نِزاعًا) [5913] ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 397). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إسلامُ الحَربيِّ المُرتَدِّ صَحيحٌ مَعَ الإكراهِ [5914] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (8/556)، ((المجموع وتكملتهـ)) للنووي وآخرين (9/159)، ((المنثور)) للزركشي (1/194). .
2- مَن حَلَفَ ألَّا يُجامِعَ زَوجَتَه أكثَرَ مِن أربَعةِ أشهرٍ، فإنَّ أقصى ما يُمكِنُ انتِظارُه أربَعةُ أشهرٍ دونَ جِماعِها، فإذا امتَنَعَ بَعدَ ذلك مِنَ الوطءِ والطَّلاقِ فأكرَهَه الحاكِمُ على الطَّلاقِ وقَعَ؛ لأنَّه إكراهٌ بحَقٍّ [5915] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (8/557)، ((المغني)) لابن قدامة (10/351)، ((المنثور)) للزركشي (1/195). .
3- إذا أكرَهَ الإمامُ بَعضَ المُكَلَّفينَ للقيامِ بفَرضِ الكِفايةِ صَحَّ، ويَقَعُ فِعلُهم مَوقِعَ الكِفايةِ [5916] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/194)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 211). .
4- إذا امتَنَعَ المَدينُ مِنَ الوفاءِ بالدَّينِ وعِندَه مَتاعٌ، فلِلقاضي أن يُكرِهَه على بَيعِه أو وفاءِ الدَّينِ، ولَه أن يَبيعَه بغَيرِ إذنِه [5917] يُنظر: ((المجموع وتكملتهـ)) للنووي وآخرين (9/159)، ((المنثور)) للزركشي (1/196)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 211). .

انظر أيضا: