الفَرعُ الخامِسُ: الإكراهُ بوعيدِ الحَبسِ والقَيدِ يَظهَرُ في الأقوالِ لا في الأفعالِ، أمَّا الإكراهُ بوعيدِ القَتلِ أو إتلافِ عُضوٍ فإنَّه يَظهَرُ في الأقوالِ والأفعالِ جَميعًا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الإكراهُ بوعيدِ الحَبسِ والقَيدِ يَظهَرُ في الأقوالِ لا في الأفعالِ، أمَّا الإكراهُ بوعيدِ القَتلِ أو إتلافِ عُضوٍ فإنَّه يَظهَرُ في الأقوالِ والأفعالِ جَميعًا"
[5942] يُنظر: ((الفرائد البهية)) لمحمود حمزة (ص: 219). وأصل القاعدة في: ((فتاوى قاضيخان)) (3/401). ويُنظر أيضًا: ((مجمع الضمانات)) لغانم البغدادي (ص: 206). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.الإكراهُ مِنَ المُسَلَّطِ النَّافِذِ الأمرِ يَكونُ بثَلاثةِ أشياءَ:
1- بوعيدٍ بتَلَفِ نَفسِ المُكرَهِ، أو تَلَفِ بَعضِ أعضائِه.
2- بحَبسٍ وقَيدٍ يُلحِقُ به الاغتِمامَ الشَّديدَ، والمَشَقَّةَ العَظيمةَ، مِن غَيرِ خَوفٍ مِنه على النَّفسِ، ولا على بَعضِ الأعضاءِ.
3- بلَطمةٍ، أو سَوطٍ أو سَوطَينِ، مِمَّا لا يَلحَقُ الإنسانَ فيه كَبيرُ ضَرَرٍ، أو مَشَقَّةٌ شَديدةٌ.
فأمَّا الوجهُ الأوَّلُ: وهو الإكراهُ بالقَتلِ، أو بإتلافِ بَعضِ الأعضاءِ: فإنَّه يَنتَقِلُ حُكمُ فِعلِ المُكرَهِ إلى المُكرِهِ فيما يَتَعَلَّقُ به مِنَ الضَّمانِ، أو يَجِبُ مِنَ القِصاصِ، ويَلزَمُ الفاعِلَ حُكمُ فِعلِه فيما يَستَوي فيه جِدُّه وهَزلُه بالقَولِ، ويَجِبُ ضَمانُ ما أتلَفَ مِنَ المالِ على المُكرَهِ.
وأمَّا الوجهُ الثَّاني: وهو الإكراهُ بالحَبسِ، فلا تَأثيرَ له في حُكمِ الأفعالِ، وحُكمُه ثابِتٌ في سُقوطِ حُكمِ الأقوالِ التي شَرطُها الطَّوعُ والرِّضا، كالبَيعِ، والهبةِ، والإقرارِ، ونَحوِها، ولا يَتَعَلَّقُ فيه حُكمُ الضَّمانِ، لا في إيجابِه، ولا في إسقاطِه على المُكرَهِ، ولا على المُكرِهِ.
فأمَّا ما لا يَختَلِفُ حُكمُ جِدِّه وهَزلِه مِن جِهةِ القَولِ، فهو واقِعٌ مَعَ الإكراه بالحَبسِ، كَوُقوعِه مَعَ الإكراهِ بالقَتلِ، إلَّا أنَّ حُكمَه لا يَنتَقِلُ إلى المُكرَهِ في الحَبسِ، ويَنتَقِلُ إلَيه حُكمُه في الإكراهِ بالقَتلِ، في بابِ وُجوبِ الضَّمانِ عليه بالإتلافِ.
وأمَّا الوجهُ الثَّالِثُ: وهو حَبسُ يَومٍ، وتَقييدُ يَومٍ، وضَربُ سَوطٍ أو سَوطَينِ: فليس له تَأثيرٌ في شَيءٍ مِمَّا ذُكِرَ، فليس ذلك إكراهًا يَتَعَلَّقُ به حُكمٌ
[5943] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/438،437). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ بشِقِّ القاعِدةِ: (الإكراهُ بوعيدِ القَتلِ أو إتلافِ عُضوٍ فإنَّه يَظهَرُ في الأقوالِ والأفعالِ جَميعًا لهذه القاعِدةِ): بقاعِدةِ (الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ فِعلًا كان أم قَولًا).
ويُستَدَلُّ بشِقِّ القاعِدةِ الآخَرِ: (الإكراهُ بوعيدِ الحَبسِ والقَيدِ يَظهَرُ في الأقوالِ لا في الأفعالِ) مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ ما كان شَرطُه الطَّوعَ والرِّضا مِنَ الأقوالِ فحُكمُه ساقِطٌ عَنِ القائِلِ مَعَ وُجودِ الإكراهِ بالحَبسِ والقَيدِ؛ لأنَّه إذا كان شَرطُه الرِّضا، والحَبسُ يَدُلُّ على الكُرهِ ويُنافي الرِّضا والطَّوعَ، لَم يَثبُتْ عليه حُكمُ قَولِه في هذه الحالِ
[5944] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/454). .
والحَبسُ لا يَكونُ إكراهًا في الأفعالِ، مِن جِهةِ أنَّ الحَبسَ أكثَرُ ما فيه عَدَمُ الرِّضا، ووُجودُ الكُرهِ، وذلك لا يَسقُطُ به ما يَتَعَلَّقُ بالفِعلِ مِنَ الضَّمانِ، وذلك كما لَو أنَّ أحَدًا أخطَأ، فلَبِسَ ثَوبَ غَيرِه وهو لا يَعلَمُ- لَم يَختَلِف حُكمُ خَطَئِه وعَمدِه في بابِ ما يَتَعَلَّقُ به مِنَ الضَّمانِ
[5945] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/455،454). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ. مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعدةِ:
1- إذا أُكرِهَ الرَّجُلُ على بَيعِ مالِه أو على شِراءِ سِلعةٍ، أو على أن يُقِرَّ لرَجُلٍ بألفٍ، أو يُؤاجِرَ دارَه -وأُكرِهَ على ذلك بالقَتلِ أو بالضَّربِ الشَّديدِ أو بالحَبسِ المَديدِ- فباعَ أوِ اشتَرى، فهو بالخيارِ: إن شاءَ أمضى البَيعَ، وإن شاءَ فسَخَه، وإن كان قَبَضَ الثَّمَنَ طَوعًا فقد أجازَ البَيعَ، وإن كان قَبَضَه مُكرَهًا فليس بإجازةٍ، وعليه رَدُّه إن كان قائِمًا في يَدِه وإن هَلَكَ المَبيعُ في يَدِ المُشتَري وهو غَيرُ مُكرَهٍ، ضَمِنَ قيمَتَه، ولِلمُكرَهِ أن يُضَمِّنَ المُكرِهَ إن شاءَ
[5946] يُنظر: ((الأصل)) لمحمد بن الحسن (7/334)، ((مختصر القدوري)) (ص: 229)، ((الفرائد البهية)) لمحمود أفندي حمزة (ص: 323). .
2- مَن أُكرِهَ بوعيدِ حَبسٍ على أن يَطرَحَ مالَه في الماءِ أو في النَّارِ، أو يَدَعَ مالَه إلى فُلانٍ، ففَعَلَ المُكرَهُ ذلك، لا يَكونُ مُكرَهًا
[5947] يُنظر: ((الفرائد البهية)) لمحمود أفندي حمزة (ص: 324،323). .
3- لَو أنَّ لصًّا أكرَهَ رَجُلًا بالحَبسِ على أن يودِعَ مالَه هذا الرَّجُلَ، فأودَعَه، فهَلَكَ عِندَ المُستَودَعِ، وهو غَيرُ مُكرَهٍ، لَم يَضمَن المُستَودَعُ ولا المُكرَهُ شَيئًا: أمَّا المُكرَهُ فلِأنَّ التَّهديدَ بالحَبسِ لا يَجعَلُ الدَّفعَ مِن صاحِبِ المالِ مَنسوبًا إلَيه، وأمَّا المُستَودَعُ فلِأنَّه قَبَضَ المالَ بتَسليمِ صاحِبِه إلَيه ليَرُدَّه عليه، وذلك غَيرُ موجِبٍ للضَّمانِ، وهذا لأنَّ فِعلَ التَّسليمِ مَقصورٌ على المالِكِ، فإنَّه لَم يَكُنْ مُلجَأً إلَيه، وإنَّما هو غَيرُ راضٍ به، فهو كَمَن أودَعَ مالَه غَيرَه عِندَ خَوفِه مِنَ اللُّصوصِ، أو عِندَ وُقوعِ الحَريقِ في دارِه، وهناكَ لا يَضمَنُ المودعُ إذا هَلَكَ في يَدِه بغَيرِ صُنعِه، وإن كان أكرَهَه بوعيدِ تَلَفٍ فلِرَبِّ المالِ أن يُضَمِّنَ المُستَودَعَ، وإن شاءَ المُكرِهَ؛ لأنَّ فِعلَه في التَّسليمِ صارَ مَنسوبًا إلى المُكرِهِ للإلجاءِ، فكَأنَّ المُكرِهَ هو الذي باشَرَ الدَّفعَ إليه
[5948] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/119). .
4- إن أُكرِهَ على إتلافِ مالِ مُسلِمٍ لأمرٍ يَخافُ مِنه على نَفسِه أو على عُضوٍ مِن أعضائِه، وسِعَه أن يَفعَلَ ذلك، ولِصاحِبِ المالِ أن يَضمِّنَ المُكرِهَ
[5949] يُنظر: ((مختصر القدوري)) (ص: 230). .
5- لَو أُكرِهَ بوعيدِ قَتلٍ على أن يَطرَحَ مالَه في البَحرِ، أو على أن يُحرِقَ ثيابَه، أو يَكسِرَ مَتاعَه، ففَعَلَ ذلك، فالمُكرِهُ ضامِنٌ لذلك كُلِّه؛ لأنَّ إتلافَ المالِ مِمَّا يَصلُحُ أن يَكونَ المُكرَهُ فيه آلةً للمُكرِهِ، فعِندَ تَحَقُّقِ الإلجاءِ يَصيرُ الفِعلُ مَنسوبًا للمُكرِهِ، فكَأنَّه باشَرَ الإتلافَ بيَدِه، وإن أكرَهَه على ذلك بحَبسٍ أو قَيدٍ ففَعَلَه، لَم يَكُنْ في المُكرَهِ ضَمانٌ ولا قَودٌ؛ لأنَّ المُكرَهَ إنَّما يَصيرُ كالآلةِ عِندَ تَمامِ الإلجاءِ، وهو ما إذا خافَ التَّلَفَ على نَفسِه، وليس في التَّهديدِ بالحَبسِ والقَيدِ مَعنى خَوفِ التَّلَفِ على نَفسِه، فيَبقى الفِعلُ مَقصورًا على المُكرَهِ، فيُؤاخَذُ بحُكمِه، وهذا لأنَّه ليس في الحَبسِ والقَيدِ إلَّا هَمٌّ يَلحَقُه، ومَن يُتلِفُ مالَ الغَيرِ اختيارًا فإنَّما يَقصِدُ بذلك دَفعَ الغَمِّ الذي يَلحَقُه بحَسَدِه إيَّاه على ما آتاه اللهُ تَعالى مِنَ المالِ، فلا يَجوزُ أن يَكونَ ذلك مُسقِطًا للضَّمانِ عنه
[5950] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/69). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.