موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: كُلُّ ما لا يَحتَمِلُ الفَسخَ لا يُؤَثِّرُ فيه الإكراهُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ ما لا يَحتَمِلُ الفَسخَ لا يُؤَثِّرُ فيه الإكراهُ" [5928] يُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 603). ، وصيغةِ: "كُلُّ ما لا يُؤَثِّرُ فيه الفَسخُ بَعدَ وُقوعِه لا يَعمَلُ فيه الإكراهُ" [5929] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (9/248)، ((البناية)) للعيني (11/66). ، وصيغةِ: "كُلُّ ما لا يُؤَثِّرُ فيه الفَسخُ بَعدَ وُقوعِه لا يُؤَثِّرُ فيه الإكراهُ" [5930] يُنظر: ((الفتاوى الهندية)) (5/ 46). ، وصيغةِ: "ما لا يَحتَمِلُ الفَسخَ لا يَعمَلُ فيه الإكراهُ" [5931] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/188). ، وصيغةِ: "كلُّ ما لا يَلْحقُهُ الفَسخُ ‌لا ‌يؤثِّرُ ‌فيه ‌الإكْراهُ" [5932] يُنظر: ((فتح باب العناية)) للقاري (3/ 406). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ. 
التَّصَرُّفاتُ أوِ العُقودُ التي تَمَّ تَنفيذُها وأصبَحَت نافِذةً بحَيثُ لا يُمكِنُ فسخُها أوِ التَّراجُعُ عَنها بَعدَ وُقوعِها، فإنَّ الإكراهَ عليها لا يَمنَعُ نَفاذَها، فإذا كان الشَّيءُ لا يَقبَلُ الفَسخَ بَعدَ تَمامِه، فإنَّ وُقوعَه تَحتَ الإكراهِ لا يُلغي أثَرَه عِندَ الحَنَفيَّةِ، فالقاعِدةُ تُبَيِّنُ ضابِطَ ما يَعمَلُ فيه الإكراهُ وما لا يَعمَلُ، وهو أنَّ كُلَّ ما يُؤَثِّرُ فيه الفَسخُ بَعدَ وُقوعِه لا يَعمَلُ فيه الإكراهُ [5933] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/188)، ((العناية)) للبابرتي (9/248)، ((البناية)) للعيني (11/66)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 603). .
قال الكاسانيُّ: (التَّصَرُّفاتُ الشَّرعيَّةُ في الأصلِ نَوعانِ: إنشاءٌ وإقرارٌ، والإنشاءُ نَوعانِ: نَوعٌ لا يَحتَمِلُ الفَسخَ ونَوعٌ يَحتَمِلُه، أمَّا الذي لا يَحتَمِلُ الفَسخَ فالطَّلاقُ والعَتاقُ والرَّجعةُ والنِّكاحُ واليَمينُ والنَّذرُ والظِّهارُ والإيلاءُ والفَيءُ في الإيلاءِ، والتَّدبيرُ والعَفوُ عَنِ القِصاصِ، وهذه التَّصَرُّفاتُ جائِزةٌ مَعَ الإكراهِ عِندَنا، وعِندَ الشَّافِعيِّ رَحِمَه اللهُ لا تَجوزُ) [5934] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/182). .
وهذه القاعِدةُ الفَرعيَّةُ تُقَيِّدُ إطلاقَ القاعِدةِ الأُمِّ (الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ فِعلًا كان أم قَولًا) عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ فالتَّصَرُّفاتُ التي لا تَحتَمِلُ الفَسخَ لا يُؤَثِّرُ الإكراهُ فيها، ولا يُسقِطُ أثَرَها.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والمَعقولِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنهما قال: ما مَنَعَني أن أشهَدَ بَدرًا إلَّا أنِّي خَرَجتُ أنا وأبي "حُسَيلٌ"، قال: فأخَذَنا كُفَّارُ قُرَيشٍ، قالوا: إنَّكُم تُريدونَ مُحَمَّدًا؟ فقُلنا: ما نُريدُه، ما نُريدُ إلَّا المَدينةَ، فأخَذوا مِنَّا عَهدَ اللهِ وميثاقَه لَنَنصَرِفَنَّ إلى المَدينةِ، ولا نُقاتِلُ مَعَه، فأتَينا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرناه الخَبَرَ، فقال: ((انصَرِفا، نَفي لَهم بعَهدِهم، ونَستَعينُ اللهَ عليهم )) [5935] أخرجه مسلم (1787). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنَعَ حُذَيفةَ وأباه "حُسَيلًا" مِن حُضورِ بَدرٍ؛ لأجلِ ما استَحلَفَهما المُشرِكونَ المُتَغَلِّبونَ عليهما على أن يَنصَرِفا إلى المَدينةِ ولا يُقاتِلا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَه، فدَلَّ ذلك أنَّ الحَلِفَ على الاختيارِ والإكراهِ سَواءٌ؛ إذ لَو لَم يَصِحَّ وُجوبُ اليَمينِ بالإكراهِ لَما مَنَعَهما النَّبيُّ عليه السَّلامُ مِن حُضورِ بَدرٍ، ولَقال لَهما: يَمينُكُما كُرهًا لا يَضُرُّكُما [5936] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (6/158)، ((نخب الأفكار)) للعيني (11/271). .
قال المَنبجيُّ: (فلَمَّا مَنَعَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حُضورِ بَدرٍ لاستِحلافِ المُشرِكينَ القاهرينَ لَهما على ما استَحلَفوهما عليه ثَبَتَ بذلك أنَّ الحَلِفَ على الطَّواعيةِ والإكراه سَواءٌ، وكَذا العَتاقُ والطَّلاقُ) [5937] ((اللباب)) (2/687). .
2- مِنَ المعقولِ:
وهو أنَّ الإكراهَ يُفَوِّتُ الرِّضا، وفَواتُ الرِّضا يُؤَثِّرُ في عَدَمِ اللُّزومِ، وعَدَمُ اللُّزومِ يُمَكِّنُ المُكرَهَ مِنَ الفَسخِ، فالإكراهُ يُمَكِّنُ المُكرَهَ مِنَ الفَسخِ بَعدَ التَّحَقُّقِ، فما لا يَحتَمِلُ الفَسخَ لا يَعمَلُ فيه الإكراهُ [5938] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (9/248). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- النَّذرُ لا يَعمَلُ فيه الإكراهُ، أي: يَصِحُّ النَّذرُ مَعَ الإكراهِ؛ لأنَّه لا يَحتَمِلُ الفَسخَ، فإن أُكرِهَ على أن يوجِبَ على نَفسِه صَدَقةً لَزِمَه ذلك؛ لأنَّ كُلَّ ما لا يُؤَثِّرُ فيه الفَسخُ بَعدَ وُقوعِه لا يُؤَثِّرُ فيه الإكراهُ مِن حَيثُ مَنعُ الصِّحَّةِ [5939] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/275)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/188)، ((العناية)) للبابرتي (9/248). .
2- اليَمينُ لا تَحتَمِلُ الفَسخَ فلا يَعمَلُ الإكراهُ فيها، فلَو أُكرِهَ على اليَمينِ وقَعَت يَمينُه   [5940] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/275). .
3- الظِّهارُ لا يَحتَمِلُ الفَسخَ فلا يَعمَلُ الإكراهُ فيها، فلَو أُكرِهَ على الظِّهارِ صَحَّ ظِهارُه؛ لأنَّ الظِّهارَ كان طَلاقًا في الجاهليَّةِ، فأوجَبَ الشَّرعُ به حُرمةً مُؤَقَّتةً بالكَفَّارةِ، فلا يُؤَثِّرُ فيه الإكراهُ، كالطَّلاقِ [5941] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/275)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/188). .

انظر أيضا: