المَطلَبُ الأوَّلُ: الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ فِعلًا كان أم قَولًا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ فِعلًا كان أم قَولًا"
[5876] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/150). ، وصيغةِ: "الإكراهُ مُسقِطٌ لاعتِبارِ الأسبابِ"
[5877] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (12/14). ، وصيغةِ: "الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ رُخصةً مِنَ اللهِ تعالى"
[5878] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/ 188). ونصُّه: (الإكراهُ يَتَعَلَّقُ به مَباحِثُ، الأوَّلُ: أنَّه يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفِ رُخصةً مِنَ اللهِ تَعالى). ، وصيغةِ: "الإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفاتِ"
[5879] يُنظر: ((الوسيط في المذهب)) للغزالي (5/ 388). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.الإكراهُ هو إلزامُ الشَّخصِ بفِعلِ أو قَولِ شَيءٍ دونَ إرادَتِه تَحتَ تَهديدٍ مُعتَبَرٍ، بحَيثُ يَفقِدُ حُرِّيَّةَ الاختيارِ بسَبَبِ خَوفِه مِن وُقوعِ ضَرَرٍ جَسيمٍ على نَفسِه أو مالِه أو عِرضِه، فإذا أُكرِهَ شَخصٌ على قَولٍ أو فِعلٍ فالتَّصَرُّفُ الذي جُبِرَ عليه بسَبَبِ الإكراهِ -سَواءٌ كان هذا التَّصَرُّفُ فِعلًا أم قَولًا- لا يُعتَبَرُ ولا يَتَرَتَّبُ عليه الأثَرُ الشَّرعيُّ، فالشَّريعةُ تُراعي حالةَ الإكراهِ وتَرفَعُ المُؤاخَذةَ والمَسؤوليَّةَ عَنِ الشَّخصِ المُكرَهِ؛ لأنَّه لَم يُمارِسِ التَّصَرُّفَ بإرادةٍ كامِلةٍ، وإنَّما أُجبِرَ عليه
[5880] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (3/240)، ((الذخيرة)) للقرافي (12/14)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/10)، ((القواعد)) للحصني (2/306)، ((حاشية الرملي على أسنى المطالب)) (2/6). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ:
قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل: 106].
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أباحَ لمَن أُكرِهَ على النُّطقِ بكَلِمةِ الكُفرِ مُكرَهًا أن يَفعَلَ؛ حَيثُ أسقَطَ عَنه حُكمَ اللَّفظِ الموجِبِ لتَكفيرِه، فدَلَّ على أنَّ الإكراهَ يُسقِطُ أثَرَ القَولِ، وهو مَضمونُ القاعِدةِ
[5881] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/454)، ((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (2/292)، ((مفاتيح الغيب)) للرازي (13/41) و (20/246). .
قال الشَّافِعيُّ: (وللكُفرِ أحكامٌ كَفِراقِ الزَّوجةِ، وأن يُقتَلَ الكافِرُ ويُغنَمَ مالُه، فلَمَّا وضَعَ اللهُ عَنه سَقَطَت عَنه أحكامُ الإكراهِ على القَولِ كُلِّه؛ لأنَّ الأعظَمَ إذا سَقَطَ عَنِ النَّاسِ سَقَطَ ما هو أصغَرُ مِنه وما يَكونُ حُكمُه بثُبوتِه عليهـ)
[5882] يُنظر: ((الأم)) (3/240). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مَن أُلقيَ مِن شاهقٍ فوقَعَ على إنسانٍ فقَتَلَه، فهو لا يَجِدُ بُدًّا مِنَ الوُقوعِ ولا اختيارَ له فيه، وإنَّما هو آلةٌ مَحضةٌ كالسِّكِّينِ، فهذا لا يَقولُ أحَدٌ: إنَّه مُكَلَّفٌ، ولا يُنسَبُ إلَيه فِعلٌ
[5883] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/11). .
2- مَن قال له شَخصٌ قادِرٌ على ما يَتَوعَّدُ به: طَلِّق زَوجَتَكَ وإلَّا قَتَلتُكَ، فطَلَّقَها، لا يَقَعُ طَلاقُه
[5884] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/11). .
3- مَن أُكرِهَ على البَيعِ بغَيرِ حَقٍّ لا يَصِحُّ بَيعُه
[5885] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/410)، ((المجموع وتكملتهـ)) للنووي وآخرين (9/159). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تقييدٌ:تَطبيقُ هذه القاعِدةِ مُقَيَّدٌ بشُروطٍ:
1- أن يَكونَ المُكرِهُ قادِرًا على تَحقيقِ ما هَدَّدَ به؛ إمَّا لولايةٍ، أو تَغَلُّبٍ، أو فرطِ هجومٍ.
2- أن يَكونَ المُكرَهُ عاجِزًا عَنِ الدَّفعِ، فإن قدَرَ بمُقاومةٍ أوِ استِغاثةٍ أو فِرارٍ ونَحوِه، فلَم يَفعَل، لَم يَكُنْ مُكرَهًا.
3- أن يَكونَ الأمرُ المُتَهَدَّدُ به مِمَّا يَحرُمُ على المُكرهِ تَعاطيه مِنه، فلَو قال وليُّ القِصاصِ للجاني: طَلِّقِ امرَأتَكَ، وإلَّا اقتَصَصتُ مِنكَ: لَم يَكُنْ ذلك إكراهًا.
4- أن يَكونَ المُتَهَدَّدُ به عاجِلًا، ويَغلِبُ على ظَنِّ المُكَلَّفِ بأنَّه يوقِعُه حالًا إن لَم يَفعَلْ ما أمَرَه به، فلَو قال: أقتُلُك غَدًا أو نَحوَ ذلك، لَم يَكُنْ إكراهًا.
5- أن يَكونَ ما هُدِّدَ به أشَدَّ مِمَّا أُكرِهَ على فِعلِه في نَظَرِ العُقَلاءِ
[5886] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (8/ 58- 60)، ((القواعد)) للحصني (2/306)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 311)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 209- 210). .
استثناءاتٌ:ذَكَرَ الغَزاليُّ مِنَ التَّصَرُّفاتِ المُستَثناةِ خَمسةَ أُمورٍ، فقال: (والإكراهُ يُسقِطُ أثَرَ التَّصَرُّفاتِ عِندَنا قَطعًا إلَّا في خَمسةِ مَواضِعَ:
الأوَّلُ: الإسلامُ؛ فإنَّه يَجوزُ إكراهُ الحَربيِّ عليه، فيَصِحُّ إسلامُه وإلَّا فتَبطُلُ فائِدةُ الإكراهِ، وفي إسلامِ الذِّمِّيِّ المُكرَهِ خِلافٌ، والأصَحُّ أنَّه لا يَصِحُّ.
الثَّاني: الإرضاعُ، ولا يُخرِجُه الإكراهُ عَن كَونِه مُحَرَّمًا؛ لأنَّه مَنوطٌ بوُصولِ اللَّبَنِ إلى الجَوفِ لا بالقَصدِ.
الثَّالِثُ: القَتلُ على أحَدِ القَولَينِ فإنَّه يوجِبُ القِصاصَ على قَولٍ؛ لأنَّ الإكراهَ لَم يَرفَعِ الإثمَ.
الرَّابِعُ: المُكرَهُ على الزِّنا على أحَدِ القَولَينِ يُحَدُّ؛ لأنَّ حُصولَ الانتِشارِ دَلالةُ الاختيارِ؛ فإنَّه لا يَحصُلُ بالإكراهِ، ومَأخَذُ القَولَينِ تَرَدُّدٌ في تَصَوُّرِ الإكراهِ.
الخامِسُ: إذا عَلَّقَ الطَّلاقَ على الدُّخولِ فأُكرِهَ على الدُّخولِ ففيه قَولانِ: مَأخَذُهما أنَّ الصِّفةَ لا يُشتَرَطُ فيها القَصدُ بَل يَكفي الاسمُ.
أمَّا البَيعُ فيَبطُلُ بالإكراهِ، وقال أبو حَنيفةَ رَحِمَه اللهُ: يَنعَقِدُ ولا يَلزَمُ.
واعلَمْ أنَّ الاستِثناءَ بالتَّحقيقِ يَرجِعُ إلى الإسلامِ فقَط، وإلى القَتلِ على قَولٍ، أمَّا ما عَداه فسَبَبُه عَدَمُ تَصَوُّرِ الإكراهِ أو عَدَمُ اشتِراطِ القَصدِ)
[5887] ((الوسيط)) (5/388- 389). ويُنظر أيضًا: ((المجموع)) للنووي (9/ 160). .
وأضافَ ابنُ السُّبكيِّ مِنَ الاستِثناءاتِ:1- بُطلانُ صَلاةِ المُتَكَلِّمِ في الصَّلاةِ مُكرَهًا.
2- الحَلِفُ باللهِ مُكرَهًا يَنعَقِدُ يَمينُه -على وجهٍ-
[5888] يُنظر أيضًا: ((المجموع وتكملتهـ)) للنووي وآخرين (9/160)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/151،150)، ((حاشية الرملي على أسنى المطالب)) (2/6)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 312). .
تنويهٌ:تَتَعَلَّقُ القاعِدةُ بالإكراهِ المُلجِئِ المُتَضَمِّنِ لعَدَمِ الرِّضا وعَدَمِ القُدرةِ على الاختيارِ، بخِلافِ غَيرِ المُلجِئِ المُتَضَمِّنِ لعَدَمِ الرِّضا مَعَ وُجودِ القُدرةِ على الاختيارِ وعَدَمِه
[5889] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/370). .