المَبحَثُ الخامِسَ عَشَرَ: التَّراضي هو المَناطُ الشَّرعيُّ في المُعامَلاتِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّراضي هو المَناطُ الشَّرعيُّ في المُعامَلاتِ"
[5303] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 619). ، وصيغةِ: "التَّراضي هو المُبيحُ للتِّجارةِ"
[5304] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/155). ، وصيغةِ: "التَّراضي هو المَناطُ الأكبَرُ في تَحليلِ أموالِ العِبادِ"
[5305] يُنظر: ((الفتح الرباني)) للشوكاني (7/3546). ، وصيغةِ: "التَّراضي هو المَناطُ في نَقلِ الأموالِ مِن بَعضِ العِبادِ إلى بَعضٍ"
[5306] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 550). ، وصيغةِ: "الرِّضا هو المَناطُ المُعتَبَرُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ في تَحليلِ بَعضِ أموالِ العِبادِ لبَعضٍ"
[5307] يُنظر: ((الفتح الرباني)) للشوكاني (8/3965). ، وصيغةِ: "الأصلُ في العُقودِ رِضا المُتَعاقِدينِ"
[5308] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/155). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ التَّراضيَ هو المَناطُ الشَّرعيُّ في المُعامَلاتِ وما يَتَرَتَّبُ عليها مِنَ التَّصَرُّفاتِ، وهو الأصلُ في العُقودِ، ولا بُدَّ مِنَ الدَّلالةِ عليه بلَفظٍ أو إشارةٍ أو كِنايةٍ، فهو بأيِّ لفظٍ وقَعَ، وعلى أيِّ صِفةٍ كان، وبأيِّ إشارةٍ مُفيدةٍ حَصَلَ؛ حَيثُ إنَّ التَّراضيَ في العُقودِ مِنَ الأُمورِ الخَفيَّةِ، وهو باطِنٌ غَيرُ ظاهرٍ، فلا بُدَّ مِن ضَبطِ الرِّضا بما يَدُلُّ عليه؛ ليَظهَرَ الإيجابُ والقَبولُ
[5309] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/155)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/366)، ((القواعد)) للحصني (3/234)، ((السيل الجرار)) (ص: 619)، ((الفتح الرباني)) (8/3965)، ((الدراري المضية)) (2/250) جميعها للشوكاني، ((نيل المرام)) لصديق حسن خان (ص: 166). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قال اللهُ تَعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه تَعالى:
تِجَارةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ يُقَرِّرُ مَبدَأَ التَّراضي في العُقودِ والتَّصَرُّفاتِ، ويَدُلُّ على أنَّ التَّراضيَ هو المَناطُ، فيَجوزُ أخذُ أموالِ الآخَرينَ بطَريقِ التَّراضي في العُقودِ الصَّحيحةِ شَرعًا، كالإعارةِ والهبةِ والبَيعِ والإجارةِ، ولَكِن بالطَّريقِ الذي أذِنَ به الشَّرعُ
[5310] يُنظر: ((الدراري المضية)) للشوكاني (2/250)، ((تفسير القاسمي)) (3/86)، ((فتح العلام)) للحطاب (ص: 348)، ((التفسير الوسيط)) لوهبة الزحيلي (1/310)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/30). .
- وقال اللهُ تَعالى:
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء: 4] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلَّقَ جَوازَ الأكلِ بطِيبِ النَّفسِ تَعليقَ الجَزاءِ بشَرطِه، فدَلَّ على أنَّه سَبَبٌ له، وهو حُكمٌ مُعَلَّقٌ على وصفٍ مُشتَقٍّ مُناسِبٍ، فدَلَّ على أنَّ ذلك الوصفَ سَبَبٌ لذلك الحُكمِ، وإذا كان طِيبُ النَّفسِ هو المُبيحَ لأكلِ الصَّداقِ فكَذلك سائِرُ التَّبَرُّعاتِ قياسًا عليه بالعِلَّةِ المنصوصةِ التي دَلَّ عليها القُرآنُ
[5311] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/155)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3058). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((لا يَحِلُّ مالُ امرِئٍ مُسلمٍ إلَّا بطيبِ نَفسٍ مِنهـ)) [5312] أخرجه أحمد (20695)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (1524) واللفظ له، والبيهقي (11654) مِن حَديثِ حَنيفةَ عَمِّ أبي حَرَّةَ الرَّقاشيِّ رَضيَ اللهُ عنه. صَحَّحَه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (7662). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ التَّراضيَ هو المَناطُ، فإذا وُجِدَت طِيبةُ النَّفسِ مَعَ التَّراضي فلا يُعتَبَرُ غَيرُ ذلك
[5313] يُنظر: ((الدراري المضية)) للشوكاني (2/250)، ((نيل المرام)) لصديق حسن خان (ص: 166). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- المُعتَبَرُ في عَقدِ البَيعِ مُجَرَّدُ التَّراضي ولَو بإشارةٍ مِن قادِرٍ على النُّطقِ، فلا تُشتَرَطُ ألفاظٌ مَخصوصةٌ، وتَمامُ التَّراضي: أن يُعقَدَ البَيعُ بالألسِنةِ بالإيجابِ والقَبولِ، فتَنتَقِلُ مِلكيَّةُ المَبيعِ للمُشتَري، ويَجِبُ على المُشتَري الوفاءُ بالثَّمَنِ دونَ تلكُّؤٍ، ولا يَجوزُ نَقضُ هذا البَيعِ مِن أحَدِ الطَّرَفينِ دونَ موافقةِ الآخَرِ
[5314] يُنظر: ((الدراري المضية)) للشوكاني (2/250)، ((الروضة الندية)) لصديق حسن خان (2/93)، ((التفسير الوسيط)) لوهبة الزحيلي (1/311). .
2- إذا قال الرَّاهنِ للمُرتَهنِ: إذا لم أوَفِّك بدَينِك في وَقتِ كَذا فالرَّهنُ لك به، كان ذلك موجِبًا لثُبوتِ مِلكِه للرَّهنِ، ولا يُشتَرَطُ غَيرُ ذلك. وكَذا إذا قال له: إذا لم أُوَفِّك بالدَّينِ إلى وقتِ كَذا فقد سَلَّطتُك على بَيعِ هذا الرَّهنِ، واستَوفِ مِن ثَمَنِه دَينَك، كان هذا صَحيحًا؛ لأنَّه يَدُلُّ على التَّراضي، والتَّراضي هو المَناطُ الشَّرعيُّ في المُعامَلاتِ وما تَرَتَّبَ عليها مِنَ التَّصَرُّفاتِ
[5315] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 619). .
3- يَجوزُ التَّفويضُ في التَّصَرُّفِ مِنَ الشُّرَكاءِ للقَريبِ المُشارِكِ، والمُرادُ بالتَّفويضِ هنا: أن يَظهَرَ مِنهم ما يَدُلُّ على أنَّهم قد ألقَوا مَقاليدَ أمرِهم ووُجوهَ تَصَرُّفاتِهم إليه مِن قَولٍ أو فِعلٍ، وارتَضَوه لتَدبيرِ دُنياهم، ولَم يُعارِضوه في شَيءٍ مِن ذلك، كما يَقَعُ كَثيرًا مِن أهلِ بَيتٍ لمَن هو الأرشَدُ مِنهم، ولَم يَكُنْ ذلك الرِّضا والتَّفويضُ لرَهبةٍ ولا لشَيءٍ مِنَ الأُمورِ التي تُخالفُ الرِّضا المُحَقَّقَ، والتَّفويضَ الخالصَ، فلا شَكَّ ولا رَيبَ أنَّ مَن كان بهذه المَثابةِ يَكونُ تَصَرُّفُه بما تَصَرَّف به مِن أموالِ شُرَكائِه المُكَلَّفينَ صَحيحًا ناجِزًا بموجِبِ التَّفويضِ الذي هو مَناطٌ شرعيٌّ لإشعارِه بالرِّضا بما وقَعَ مِنه مِنَ التَّصَرُّفاتِ، وهذا الرِّضا هو المَناطُ المُعتَبَرُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ في تَحليلِ بَعضِ أموالِ العِبادِ لبَعضٍ
[5316] يُنظر: ((الفتح الرباني)) للشوكاني (8/3965). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ الصُّوَرُ التي تَدخُلُ تَحتَ المُحَرَّماتِ، فإذا تَراضى المُتَعاقِدانِ بتِجارةٍ أو طابَت نَفسُ المُتَبَرِّعِ بتَبَرُّعٍ ثَبَتَ حِلُّه بدَلالةِ القُرآنِ، إلَّا أنَّه يَتَضَمَّنُ ما حَرَّمَه اللهُ ورَسولُه، كالتِّجارةِ في الخَمرِ ونَحوِ ذلك، فليس كُلُّ تَراضٍ مُعتَرَفًا به شَرعًا، وإنَّما التَّراضي يَكونُ ضِمنَ حُدودِ الشَّرعِ، فلا يَحِلُّ المالُ الرِّبَويُّ في بَيعٍ أو قَرضٍ جَرَّ نَفعًا، ولا المالُ المَأخوذُ بالقِمارِ والرِّهانِ مِنَ الجانِبَينِ، حَتَّى وإن تَراضى عليه الطَّرَفانِ؛ لأنَّ رِضاهما مُصادِمٌ لأمرِ الشَّرعِ الإلَهيِّ
[5317] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/155)، ((التفسير الوسيط)) لوهبة الزحيلي (1/311). .