المَبحَثُ الثَّالثُ: كُلُّ عَقدٍ يُقصَدُ به الحَرامُ فهو حَرامٌ والعَقدُ باطِلٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ عَقدٍ يُقصَدُ به الحَرامُ فهو حَرامٌ والعَقدُ باطِلٌ"
[4928] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/319)، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/200)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (11/170)، ((المنح الشافيات)) للبهوتي (1/422). .
واستُعمِلَت بصيَغٍ خاصَّةٍ بعَقدِ البَيعِ، مِنها: صيغةُ: "لا يَصِحُّ بَيعُ ما قُصِدَ به الحَرامُ"
[4929] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (6/169)، ((القواعد والفوائد الأصولية)) لابن اللحام (ص: 24)، ((المنهج الصحيح)) للعسكري (2/773)، ((الإقناع)) للحجاوي (2/74)، ((غاية المنتهى)) لمرعي الكرمي (1/512)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (7/373). ، وصيغةِ: "لا يَحِلُّ بَيعُ شَيءٍ مِمَّن يُوقنُ أنَّه يَعصي اللَّهَ به أو فيه، وهو مَفسوخٌ أبَدًا"
[4930] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/522). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.اشتَهرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنابلةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ العَقدَ الذي يُقصَدُ به الحَرامُ أوِ الإعانةُ عليه أوِ المُساعَدةُ فيه، فهو حَرامٌ، وإن تَمَّ العَقدُ بشُروطِه وأركانِه؛ لأنَّه قد وُجِدَ المانِعُ مِنه، وهو مَعصيةُ اللهِ تَعالى؛ لأنَّه عَقدٌ على عَينٍ؛ لمَعصيةِ اللهِ بها، فلم يَصِحَّ، ولأنَّ التَّحريمَ هاهنا لحَقِّ اللهِ تَعالى، فأفسَدَ العَقدَ. ويَكونُ العَقدُ حَرامًا باطِلًا إذا عَلمَ البائِعُ قَصدَ المُشتَري ذلك إمَّا بقَولِه، وإمَّا بقَرائِنَ مُختَصَّةٍ به تَدُلُّ على ذلك. فأمَّا إذا لم يوقِنْ بشَيءٍ مِن ذلك فالعَقدُ صَحيحٌ؛ لأنَّه لم يُعِنْ على إثمٍ، وكَذلك إن كان الأمرُ مُحتَمِلًا، مِثلُ أن يَعقِدَ مَعَ مَن لا يَعلَمُ حالَه، أو مَن يَعمَلُ الحَلالَ والحَرامَ مَعًا، ولَم يَلفِظْ بما يَدُلُّ على إرادةِ الحَرامِ، فالعَقدُ جائِزٌ
[4931] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/522)، ((المغني)) لابن قدامة (6/318)، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/200)، ((المعاملات المالية المعاصرة)) للدبيان (5/113)، ((أحكام عقود التمويل)) لعبدالله المعيدي (ص: 58). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ، وسَدِّ الذَّرائِعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قال اللهُ تَعالى:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذا نَهيٌ يَقتَضي التَّحريمَ، والعُقودُ التي يوقَنُ أنَّه يُعصى اللَّهُ بها تَعاوُنٌ ظاهرٌ على الإثمِ والعُدوانِ، وفَسخُها وإبطالُها تَعاوُنٌ على البرِّ والتَّقوى
[4932] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/522)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (11/170)، ((المنح الشافيات)) للبهوتي (1/422). .
- وقال اللهُ تَعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تَعالى نهى عن بَيعٍ وقتَ نِداءِ الجُمعةِ؛ لئَلَّا يُتَّخَذَ ذَريعةً إلى التَّشاغُلِ عن حُضورِها، وهو أمرٌ مُحَرَّمٌ، فدَلَّ ذلك على تَحريمِ العَقدِ المُؤَدِّي إلى مُحرَّمٍ
[4933] يُنظر: ((أحكام عقود التمويل)) لعبدالله المعيدي (ص: 59). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَقولُ:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى )) [4934] أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه لمَّا كانتِ الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وكانتِ النِّيَّةُ مِنَ العَقدِ عَمَلًا مُحَرَّمًا، حُرِّمَ العَقدُ
[4935] يُنظر: ((المعاملات المالية المعاصرة)) للدبيان (5/117). .
- وعَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَقولُ:
((أتاني جِبريلُ فقال: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لعَنَ الخَمرَ، وعاصِرَها، ومُعتَصِرَها، وشارِبَها، وحامِلَها، والمَحمولةَ إليه، وبائِعَها، ومُبتاعَها، وساقيَها، ومُستَقِيَها )) [4936] أخرجه أحمد (2897) واللفظ له، وابن حبان (5356)، والطبراني (12/233) (12976). صَحَّحَه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (72)، وصَحَّحَه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2897)، وصَحَّحَ إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (2268)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/247). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تَعالى لَعَن الخَمرَ، ولَعَن كُلَّ مُعاوِنٍ عليها، ومُساعِدٍ فيها
[4937] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/318)، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/199). .
3- الاستِدلالُ بسَدِّ الذَّرائِعِ:فالعَقدُ الذي يُقصَدُ به الحَرامُ إنَّما حُرِّمَ لكَونِه وسيلةً للوُقوعِ في المُحَرَّمِ، وما أدَّى إلى الحَرامِ فهو حَرامٌ؛ فهذا العَقدُ المُؤَدِّي إلى مُحرَّمٍ يَرجِعُ إلى أصلٍ عَظيمٍ مِن أُصولِ الشَّريعةِ، وهو سَدُّ الذَّرائِعِ، وهو أصلٌ مُتَّفَقٌ عليه ومَعمولٌ به في الجُملةِ، وإنَّما وقَعَ الخِلافُ في بَعضِ أنواعِه، وفي بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ التي تَتَفاوتُ فيها قوَّةُ وُقوعِ المَفسَدةِ، وظُهورِ القَصدِ إليها
[4938] يُنظر: ((أحكام عقود التمويل)) لعبدالله المعيدي (ص: 59). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (قال الإمامُ أحمَدُ: نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عن بَيعِ السِّلاحِ في الفِتنةِ. ولا رَيبَ أنَّ هذا سدٌّ لذَريعةِ الإعانةِ على المَعصيةِ، ويَلزَمُ مَن لم يَسُدَّ الذَّرائِعَ أن يُجَوِّزَ هذا البَيعَ كما صَرَّحوا به، ومِنَ المَعلومِ أنَّ هذا البَيعَ يَتَضَمَّنُ الإعانةَ على الإثمِ والعُدوانِ، وفي مَعنى هذا كُلُّ بَيعٍ أو إجارةٍ أو مُعاوَضةٍ تُعينُ على مَعصيةِ اللهِ تَعالى، كبَيعِ السِّلاحِ للكُفَّارِ والبُغاةِ وقُطَّاعِ الطَّريقِ، وبَيعِ الرَّقيقِ لمَن يَفسُقُ به أو يُؤاجِرُه لذلك، وإجارةِ دارِه أو حانوتِه أو خانِه لمَن يُقيمُ فيها سوقَ المَعصيةِ، وبَيعِ الشَّمعِ أو إجارَتِه لمَن يَعصي اللَّهَ عليه، ونَحوِ ذلك مِمَّا هو إعانةٌ على ما يُبغِضُه اللَّهُ ويُسخِطُهـ)
[4939] ((إعلام الموقعين)) (4/41-42). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- لا يَحِلُّ بَيعُ كُلِّ شَيءٍ يُنبَذُ أو يُعصَرُ مِمَّن يوقِنُ أنَّه يَعمَلُه خَمرًا، فبيعُ العِنَبِ أوِ الزَّبيبِ أوِ العَصيرِ لمَن يَتَّخِذُه خَمرًا مُحَرَّمٌ، والعَقدُ باطِلٌ؛ لأنَّه يَعقِدُ عليها لمَن يَعلَمُ أنَّه يُريدُها للمَعصيةِ، فيَحرُمُ البَيعُ ويَبطُلُ إذا عَلمَ البائِعُ قَصدَ المُشتَري ذلك، إمَّا بقَولِه، وإمَّا بقَرائِنَ مُختَصَّةٍ به تَدُلُّ على ذلك. فأمَّا إن كان الأمرُ مُحتَمِلًا، مِثلُ أن يَشتَريَها مَن لا يَعلَمُ حالَه، أو مَن يَعمَلُ الخَلَّ والخَمرَ مَعًا، ولَم يَلفِظْ بما يَدُلُّ على إرادةِ الخَمرِ، فالبَيعُ جائِزٌ
[4940] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/522)، ((المغني)) لابن قدامة (6/317)، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/199)، ((المنح الشافيات)) للبهوتي (1/422). .
2- لا يَجوزُ بَيعُ مَأكولٍ ومَشروبٍ لمَن يَشرَبُ عليه مُسكِرًا، ولا بَيعُ أقداحٍ ونَحوِها لمَن يَشرَبُ بها؛ لأنَّ ذلك قد قُصِدَ به الحَرامُ
[4941] يُنظر: ((المنح الشافيات)) للبهوتي (1/422)، ((المنهج الصحيح)) للعسكري (2/773)، ((الإقناع)) للحجاوي (2/74)، ((غاية المنتهى)) لمرعي الكرمي (1/512). .
3- بَيعُ السِّلاحِ ونَحوِه لأهلِ الحَربِ، أو لقُطَّاعِ الطَّريقِ، أو في الفِتنةِ، فيَكونُ بَيعُ ذلك كُلِّه باطِلًا؛ لأنَّها عُقودٌ مُحَرَّمةٌ، فبَطَلَت للتَّحريمِ، ولأنَّها مُعاونةٌ على مَعصيةِ اللهِ أشبَهَت شَهادةَ نِكاحِ المُحرِمِ
[4942] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/319)، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/200)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (11/168)، ((المنهج الصحيح)) للعسكري (2/773). .
4- لا يَحِلُّ بَيعُ الحَريرِ لمَن يوقِنُ أنَّه يَلبَسُه مِنَ الرِّجالِ؛ لأنَّه تَعاونٌ على الإثمِ والعُدوانِ
[4943] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/522). .
5- مَن أجَّر دارَه لتُتَّخَذَ كَنيسةً، أو بَيتَ نارٍ للمَجوسِ، وأشباهَ ذلك، فيَكونُ ذلك كُلُّه باطِلًا؛ لأنَّه عَقدٌ مُحَرَّمٌ، فبَطَلَ للتَّحريمِ، ولأنَّه مُعاونةٌ على مَعصيةِ اللهِ
[4944] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/319)، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/200). .