موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني عَشَرَ: قاعِدةُ: ما كان القَبضُ فيه مِن تَمامِ العَقدِ فلا يَلزَمُ إلَّا بالقَبضِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما كان القَبضُ فيه مِن تَمامِ العَقدِ فلا يَلزَمُ إلَّا بالقَبضِ" [5255] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/406). ، وصيغةِ: "ما يَفتَقِرُ إلى القَبضِ لا يَلزَمُ إلَّا بقَبضِه" [5256] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (3/398)، ((الإنصاف)) للمرداوي (11/277). ، وصيغةِ: "القَبضُ في العُقودِ على قِسمَينِ: أحَدُهما: أن يَكونَ مِن موجِبِ العَقدِ ومُقتَضاه؛ كالبَيعِ اللَّازِمِ، والرَّهنِ اللَّازِمِ، والهبةِ اللَّازِمةِ، والصَّداقِ، وعِوَضِ الخُلعِ؛ فهذه العُقودُ تَلزَمُ مِن غَيرِ قَبضٍ، وإنَّما القَبضُ فيها مِن موجِباتِ عُقودِها. والثَّاني: أن تَكونَ مِن تَمامِ العَقدِ؛ كالقَبضِ في السَّلَمِ والرِّبَوياتِ" [5257] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/322). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
القاعِدةُ خاصَّةٌ بما يَكونُ القَبضُ فيه مِن تَمامِ العَقدِ، وبذلك تُفرِّقُ بَينَ أمرَينِ:
الأوَّلُ: ما يَكونُ القَبضُ فيه مِن تَمامِ العَقدِ، فإنَّه لا يَلزَمُ إلَّا بالقَبضِ، كالرَّهنِ لا يَلزَمُ مِن جِهةِ الرَّاهنِ إلَّا بإقباضِه.
والثَّاني: ما يَكونُ القَبضُ فيه مِن مُقتَضى العَقدِ ومُوجِبِه، فإنَّه يَلزَمُ مِن غَيرِ قَبضٍ، كالبَيعِ والإجارةِ والصَّداقِ والخُلعِ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العُقودَ التي يَكونُ القَبضُ فيها مِن تَمامِ العَقدِ فلا يَتَأتَّى اللُّزومُ فيها إلَّا بالقَبضِ، فإذا لزِمَ بقَبضِه فلا يَملِكُ المُتَعاقِدُ الرُّجوعَ فيه بَعدَ القَبضِ، والمُرادُ بالقَبضِ: القَبضُ المَعهودُ في كُلِّ عَقدٍ؛ لأنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه كما هو المُتَعارَفُ عليه بَينَ النَّاسِ [5258] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/406)، ((دليل الطالب)) لمرعي الكرمي (ص: 138)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (8/155)، ((بداية المحتاج)) لابن قاضي شهبة (2/140). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تَعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: 283] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ الرَّهنَ يَلزَمُ بقَبضِه؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالى وَصفَ الرِّهانِ بكَونِها مَقبوضةً؛ فدَلَّ على أنَّ ذلك واجِبٌ فيها، وهو ما قال به جُمهورُ الفُقَهاءِ [5259] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (3/142)، ((المغني)) لابن قدامة (6/446)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (12/391)، ((عمدة القاري)) للعيني (13/68)، ((فتح العلام)) لمحمد علي البعداني (6/198). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الرَّهنُ يُركَبُ بنَفقَتِه إذا كان مَرهونًا، ولَبَنُ الدَّرِّ يُشرَبُ بنَفقَتِه إذا كان مَرهونًا، وعلى الذي يَركَبُ ويَشرَبُ النَّفقةُ )) [5260] أخرجه البخاري (2512). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: "يَركَبُ"، و"يَشرَبُ" يَدُلُّ على أنَّ المُرتَهِنَ يَقبضُ المَرهونَ؛ فالآكِلُ والشَّارِبُ هو المُرتَهنُ، فالمُرتَهِنُ يَقبضُه، ولا شَكَّ أنَّ قَبضَه أشَدُّ توثِقةً مِمَّا لو لم يَقبِضْه، ويَرى الجُمهورُ أنَّ القَبضَ شَرطٌ للُّزومِ، وأنَّك إذا رَهَنتَ شَيئًا ولَم تُسَلِّمْه للمُرتَهنِ فلَك الرُّجوعُ في الرَّهنِ؛ لأنَّ الرَّهنَ لا يَلزَمُ إلَّا بالقَبضِ [5261] يُنظر: ((الشرح الممتع)) (9/135)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (4/93) كلاهما لابن عثيمين. .
- وعَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم اشتَرى طَعامًا مِن يَهوديٍّ إلى أجَلٍ، ورَهَنه دِرعًا مِن حَديدٍ )) [5262] أخرجه البخاري (2068) واللفظ له، ومسلم (1603). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ المُرتَهنَ يَقبضُ الرَّهنَ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا رَهَنَ دِرعَه لليَهوديِّ أقبضَه إيَّاه، فإذا كان كذلك فإنَّه لو لم يَقبِضْه لم يَكُنِ الرَّهنُ لازِمًا [5263] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/135). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- يَصِحُّ عَقدُ القَرضِ في كُلِّ عَينٍ يَجوزُ بَيعُها، ويَتِمُّ بقَبولٍ كَسائِرِ العُقودِ، ويُملَكُ ويَلزَمُ بقَبضِه، فلا يَملِكُ المُقرِضُ استِرجاعَه؛ لأنَّه عَقدٌ يَقِفُ التَّصَرُّفُ فيه على القَبضِ، فوقف المِلكُ عليه، سَواءٌ كان مَكيلًا أو مَوزونًا أو مَعدودًا أو غَيرَ ذلك [5264] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/82)، ((الكافي)) لابن قدامة (2/70)، ((الإقناع)) للحجاوي (2/147)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (8/136)، ((دليل الطالب)) لمرعي الكرمي (ص: 138). .
2- القَبضُ شَرطٌ في صِحَّةِ الصَّرفِ، فيَجِبُ التَّقابُضُ في مَجلسِ الصَّرفِ؛ ليَحصُلَ مَقصودُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَعاقِدينِ مِن عَقدِ الصَّرفِ؛ لأنَّ مَقصودَ كُلِّ واحِدٍ مِنهما مِن هذا العَقدِ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ، فلَمَّا لم يَتَحَقَّقِ التَّعيينُ إلَّا بالقَبضِ شُرِط قَبضُ أحَدِ البَدَلَينِ للتَّعيينِ، وشُرِطَ قَبضُ الآخَرِ حَقًّا للعاقِدِ الآخَرِ؛ تَحقيقًا للتَّساوي بَينَهما [5265] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/133، 225)، ((القواعد)) لابن رجب (1/325). .
3- الرَّهنُ عَقدُ وثيقةٍ يَفتَقِرُ إلى إيجابٍ وقَبولٍ، وهو جائِزٌ قَبلَ القَبضِ غَيرُ لازِمٍ، وإنَّما يَلزَمُ بالقَبضِ، فإذا قَبَضَ المُرتَهِنُ الرَّهنَ صارَ لازِمًا مِن جِهةِ الرَّاهنِ دونَ المُرتَهِنِ؛ لأنَّه وثيقةٌ على الرَّاهنِ، فكان لازِمًا مِن جِهَتِه ليَصِحَّ الاستيثاقُ به، فإذا أرادَ فسخَه قَبلَ قَضاءِ الحَقِّ لم يَكُنْ له؛ لأنَّه وثيقةٌ للمُرتَهنِ [5266] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/30)، ((التنبيهـ)) للشيرازي (ص: 100)، ((روضة القضاة)) لابن السمناني (1/418). .

انظر أيضا: