موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه على ما جَرَت العادةُ فيه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "قَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه على ما جَرَت العادةُ فيه" [5267] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/29)، ((الفواكه العديدة)) للمنقور (1/353). ، وصيغةِ: "قَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه" [5268] يُنظر: ((المغني)) (6/158)، ((الكافي)) (2/18) كلاهما لابن قدامة، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/283)، ((المفهم)) للقرطبي (4/424، ((الممتع)) لابن المنجى (2/478)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/304)، ((التنبيهـ)) لابن أبي العز (5/591)، ((منار السبيل)) لابن ضويان (1/339). ، وصيغةِ: "القَبضُ في كُلّ شَيءٍ بحَسَبِه" [5269] يُنظر: ((حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج)) (5/303)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (11/482)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/200). ، وصيغةِ: "قَبضُ كُلِّ شَيءٍ وتَسليمُه يَكونُ بحَسَبِ ما يَليقُ به" [5270] يُنظر: ((التصحيح والترجيح)) لابن قطلوبغا (ص: 297)، ((الإسعاف)) للطرابلسي (ص: 71)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/268)، ((اللباب)) للميداني (2/186). ، وصيغةِ: "قَبضُ كُلِّ شَيءٍ هو المُتَعارَفُ" [5271] يُنظر: ((فتاوى ومسائل)) محمد بن عبد الوهاب (ص: 80). ، وصيغةِ: "القَبضُ مَرجِعُه إلى عُرفِ النَّاسِ" [5272] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/275). ، وصيغةِ: "القَبضُ في كُلِّ شَيءٍ على قَدرِ صِفتِه" [5273] يُنظر: ((المسالك)) لابن العربي (6/21). ، وصيغةِ: "القَبضُ في كُلِّ شَيءٍ على قدرِ سَعَتِه" [5274] يُنظر: ((القبس)) لابن العربي (ص: 785). ، وصيغةِ: "المَرجِعُ في القَبضِ إلى عُرفِ النَّاسِ وعاداتِهم" [5275] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/20). ، وصيغةِ: "التَّسليمُ في العَقدِ يَجِبُ على حَسَبِ العُرفِ" [5276] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/170)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (21/382). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المَرجِعَ في القَبضِ إلى عُرفِ النَّاسِ وعاداتِهم؛ إذ ليس له حَدٌّ في اللُّغةِ ولا في الشَّرعِ، فيَستَوي فيه جَميعُ النَّاسِ وفي جَميعِ الأحوالِ والأوقاتِ. فقَبضُ كُلِّ شَيءٍ على حَسَبِ ما يَليقُ به، والمَرجِعُ فيه إلى العادةِ، فالمُرادُ بالقَبضِ هو القَبضُ المَعهودُ بحَسَبِ كُلِّ شَيءٍ، ويَحصُلُ فيما يُنقَلُ بالنَّقلِ، وفيما يُتَناوَلُ باليَدِ بالتَّناوُلِ، فإن كان عَقارًا أو مِمَّا لا يُنقَلُ كالدُّورِ والأرَضينَ، يَكونُ قَبضُه بالتَّخليةِ مِن غَيرِ حائِلٍ، وذلك يَنطَبقُ على الثَّمَرِ على الشَّجَرِ، والزَّرعِ في الأرضِ. وإن كان مَنقولًا فقَبضُه يَكونُ بنَقلِه أو تَناوُلِه، أي: أخذِه فِعلًا. وإن كان كالحُليِّ فيَتِمُّ قَبضُه بنَقلِه، وإن كان كالدَّراهمِ والثَّوبِ فيَتِمُّ نَقلُه بتَناوُلِه، وإن كان مَكيلًا أو مَوزونًا فقَبضُه يَكونُ بكَيلِه أو وزنِه، وإن كان مَعدودًا فقَبضُه بعَدِّه. ويُعتَبَرُ العُرفُ المُتَعارَفُ عليه في هذا المَذكورِ كُلِّه. وما دامَ أنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه، فيُشتَرَطُ كَمالُ القَبضِ؛ لأنَّ التَّنصيصَ عليه يَدُلُّ على الاعتِناءِ بوُجودِه [5277] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/407)، ((المغني)) لابن قدامة (6/186)، ((المحرر)) للمجد بن تيمية (1/323)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/478)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/20) و(30/275)، ((البناية)) للعيني (10/170)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/4239). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (ما كان القَبضُ فيه مِن تَمامِ العَقدِ فلا يَلزَمُ إلَّا بالقَبضِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّها تُبَيِّنُ صِفةَ القَبضِ المُشتَرَطِ في لُزومِ العَقدِ المَذكورِ في القاعِدةِ الأُمّ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: (رَأيتُ الذينَ يَشتَرونَ الطَّعامَ مُجازَفةً يُضرَبونَ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يَبيعوه حَتَّى يُؤووه إلى رِحالِهم) [5278] أخرجه البخاري (2131) واللفظ له، ومسلم (1527). .
وعَنه رَضيَ اللهُ عنه: (أنَّهم كانوا يَشتَرونَ الطَّعامَ مِنَ الرُّكبانِ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيَبعَثُ عليهم مَن يَمنَعُهم أن يَبيعوه حَيثُ اشتَرَوه، حَتَّى يَنقُلوه حَيثُ يُباعُ الطَّعامُ) [5279] أخرجه البخاري (2123). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ المَبيعَ جُزافًا -أي: المَبيعَ بالتَّقديرِ دونَ العِلمِ بوزنِه أو كَيلِه- قَبضُه نَقلُه؛ حَيثُ إنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ على حَسَبِ ما يَليقُ به، والمَرجِعُ فيه إلى العادةِ؛ فإن كان شَيئًا خَفيفًا مِن دَراهمَ أو دَنانيرَ أو ثَوبٍ ونَحوِه فيَقبضُه باليَدِ، وإن كان ثَقيلًا فيَنقُلُه إلى مَكانٍ آخَرَ. وكَذلك الطَّعامُ يَشتَريه جُزافًا، فإنِ اشتَراه مُكايَلةً أو موازَنةً؛ فقَبضُه نَقلُه بالكَيلِ أوِ الوزنِ، وإن قَبضَه جُزافًا كان فاسِدًا، غَيرَ أنَّه دَخَلَ في ضَمانِه، ولا يَتَصَرَّفُ فيه [5280] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/407)، ((الكافي)) لابن قدامة (2/18)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/29). .
- وعَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَنِ اشتَرى طَعامًا فلا يَبِعْه حَتَّى يَكتالَهـ)) وفي رِوايةٍ: ((مَنِ ابتاعَ...)) [5281] أخرجه مسلم (1528). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه؛ إذِ المَكيلُ المَبيعُ مُكايَلةً قَبْضُه كَيلُه، بخِلافِ المَبيع جُزافًا؛ فإنَّ قَبْضَه نَقلُه، فالقَبضُ ورَدَ في الحَديثِ مُطلَقًا، وهو مَحمولٌ على العُرفِ، فقَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه [5282] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/18)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/478)، ((الإعلام)) لابن الملقن (7/174). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الكُبرى: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّ القَبضَ ليس له حَدٌّ في اللُّغةِ ولا في الشَّرعِ، فيَكونُ المَرجِعُ فيه إلى عُرفِ النَّاسِ وعاداتِهم [5283] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/20) و(30/275). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يَختَلفُ القَبضُ في البَيعِ باختِلافِ المَبيعِ؛ إذ إنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه؛ فقَبضُ المَنقولِ يَكونُ إمَّا بالتَّناوُلِ إذا كان يُتَناولُ باليَدِ، كالثَّوبِ والكِتابِ ونَحوِهما، وإمَّا بالنَّقلِ إذا كان لا يُتَناولُ باليَدِ كالسَّيَّارةِ. وأمَّا غَيرُ المَنقولِ كالأرضِ فقَبضُه بالتَّخليةِ بَينَه وبَينَ المُشتَري وتَمكينِه مِنه، وإزالةِ المَوانِعِ مِن تَسَلُّمِه [5284] يُنظر: ((الفقه المنهجي)) لمصطفى الخِن وآخرين (6/20). .
2- إذا كان المُشتَرى حَيَوانًا فقَبضُه بأن يَأخُذَه بزِمامِه ويَقودَه أو يَسوقَه، وإن كان عَقارًا أو شَجَرًا ثابتًا أو ثَمَرًا باعَه على الشَّجَرةِ قَبلَ أوانِ الجُذاذِ، فقَبضُه بالتَّخليةِ بَينَه وبَينَ المُشتَري، وتَسليمِ مِفتاحِ الدَّارِ إليه [5285] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/407)، ((الكافي)) لابن قدامة (2/19). .
3- قَبضُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والجَوهَرِ باليَدِ، وسائِرُ ما يُنقَلُ قَبضُه نَقْلُه؛ لأنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه [5286] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/19). .

انظر أيضا: