الفَرعُ الأوَّلُ: الأصلُ أنَّ مَن أتلَف مِثليًّا فعليه مِثلُه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ أنَّ مَن أتلَف مِثليًّا فعليه مِثلُه"
[4044] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/324). ، وصيغةِ: "المِثْليَّاتُ تُضمَنُ بالمِثلِ دونَ القيمةِ"
[4045] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (1/212). ، وصيغةِ: "لا يُجبَرُ المِثليُّ بغَيرِ مِثلِه"
[4046] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (8/290). ، وصيغةِ: "ضَمانُ المِثْليَّاتِ بالمِثلِ"
[4047] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/118). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.المِثليُّ عِندَ الشَّافِعيَّةِ والحَنابلةِ: هو كُلُّ ما يَحصُرُه الكَيلُ أوِ الوزنُ، وجازَ السَّلَمُ فيه
[4048] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (10/421)، ((الإنصاف)) للمرداوي (15/257). ، وعِندَ المالِكيَّةِ: هو المَكِيلُ والمَوزونُ والمَعدودُ غَيرُ المُتَفاوِتِ الأفرادِ
[4049] يُنظر: ((تحبير المختصر)) لبهرام الدميري (4/384). ، وعِندَ الحَنَفيَّةِ: هو ما يوجَدُ له مِثلٌ في الأسواقِ بلا تَفاوُتٍ بَينَ أجزائِه يُعتَدُّ به
[4050] يُنظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/262). ، فإذا تَعَدَّى شَخصٌ على مالِ غَيرِه فأهلَكه فإنَّه يَجِبُ ضَمانُه بمِثلِه إن كان مِثليًّا؛ لأنَّ الواجِبَ الأصليَّ في الضَّماناتِ هو المِثلُ؛ لأنَّ المِثلَ أعدَلُ؛ لِما فيه مِن مُراعاةِ الجِنسِ والماليَّةِ، فكان أدفَعَ للضَّرَرِ وأقرَبَ إلى الأصلِ، فالمِثلُ أقرَبُ إلى الشَّيءِ مِنَ القيمةِ، وهو مُماثِلٌ له صورةً ومَعنًى، فكان الإلزامُ به أعدَلَ وأتَمَّ لجُبرانِ الضَّرَرِ، والواجِبُ في الضَّمانِ الاقتِرابُ مِنَ الأصلِ بقَدرِ الإمكانِ تَعويضًا للضَّرَرِ، فإذا تَعَذَّرَتِ المُماثَلةُ فإنَّه يَضمَنُه بقيمَتِه لتَعَذُّرِ المُماثَلةِ
[4051] يُنظر: ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/456)، ((عمدة القاري)) للعيني (11/ 273)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (31/239). ، ولمَّا كان أساسُ المِثلِ هو التَّماثُلَ بَينَ الأجزاءِ مَعَ عَدَمِ التَّفاوُتِ بَينَ الأجزاءِ تَفاوُتًا يُعتَدُّ به كان لاختِلافِ الظُّروفِ والأحوالِ تَأثيرٌ على المِثليِّ والمُتَقَوِّمِ، فرُبَّما كان الشَّيءُ مُتَقَوِّمًا قديمًا ويُصبحُ اليَومَ مِثليًّا، وفي هذا يَذكُرُ بَعضُ المُعاصِرينَ أنَّ الأموالَ التي كانت في عُصورِ الفُقَهاءِ السَّابقينَ ذاتَ وحَداتٍ قياسيَّةٍ مُتَماثِلةٍ تُقاسُ بها هيَ الوحَداتُ المُتَعارَفةُ الأربَعُ: بالثِّقلِ، أوِ الحَجمِ، أوِ المَسافةِ، أوِ التَّعدادِ، واليَومَ في عَصرِنا هذا قد وُجِدَ بَعضُ أموالٍ أُخرى اكتَشَفها العِلمُ بقَوانينِ الطَّبيعةِ، وأصبَحَت تُعتَبَرُ مِن أعظَمِ الأموالِ شَأنًا في حَياةِ المُجتَمَعاتِ البَشَريَّةِ، وهيَ تُباعُ وتُشتَرى وتُقاسُ كَمِّيَّتُها بوحَداتٍ قياسيَّةٍ غَيرِ تلك المَقاييسِ، وعِندَئِذٍ يَجِبُ تَعديلُ الحَصرِ الفِقهيِّ السَّابقِ للأموالِ المِثليَّةِ بالأنواعِ الأربَعةِ بحَسَبِ نَوعِ وَحَداتِها القياسيَّةِ التَّقليديَّةِ، وذلك بأن نَقولَ: إنَّ المالَ المِثليَّ يَنحَصِرُ في كُلِّ ما يُقاسُ بوحَداتٍ قياسيَّةٍ مُتَماثِلةٍ تُحَدِّدُ مِقدارَه، سَواءٌ أكانت وحدَتُه القياسيَّةُ هيَ الثِّقلَ أوِ الحَجمَ أوِ المَسافةَ أوِ التَّعدادَ أو غَيرَ ذلك مِنَ المَقاييسِ المُنضَبِطةِ
[4052] يُنظر: ((المدخل إلى نظرية الالتزام)) لمصطفى الزرقا (ص: 152،151). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والإجماع:
1- مِنَ القُرآنِ: - قال اللهُ تعالى:
فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ أوجَبَ المِثليَّةَ في رَدِّ الاعتِداءِ، وهو مَضمونُ القاعِدةِ
[4053] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/139) و (12/20)، ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (3/111). .
- وقال اللهُ سُبحانَه:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشُّورى: 40] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الآيةَ جَعَلَتِ العِقابَ مُماثِلًا للذَّنبِ، وهو مَعنى القاعِدةِ
[4054] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (11/6019)، ((مفاتيح الغيب)) للرازي (27/606،605). .
- وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الآيةَ نَصَّت على أنَّ من صاد صَيدًا وهو مُحرِمٌ فجَزاءُ ذلك أن يَذبَحَ مِثلَ ذلك الصَّيدِ في الصُّورةِ والشَّبَهِ مِن بَهيمةِ الأنعامِ، وفي ذلك دَليلٌ على أنَّ الأصلَ في الضَّمانِ هو المِثلُ
[4055] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (12/431). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه قال:
((أهَدَت بَعضُ أزواجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا في قَصعةٍ، فضَرَبَت عائِشةُ القَصعةَ بيَدِها فألقَت ما فيها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: طَعامٌ بطَعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ)) [4056] أخرجه الترمذي (1359) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (1022)، والطوسي في ((مختصر الأحكام)) (1263). صححه الترمذي والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (5244)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1359). وقِصَّةُ كَسرِ القَصعةِ أصلُها في صَحيحِ البُخاريِّ (2481) ولَفظُها: عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان عِندَ بَعضِ نِسائِه، فأرسَلَت إحدى أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ مَعَ خادِمٍ بقَصعةٍ فيها طَعامٌ، فضَرَبَت بيَدِها، فكَسَرَتِ القَصعةَ، فضَمَّها وجَعَلَ فيها الطَّعامَ، وقال: كُلوا، وحَبَسَ الرَّسولَ والقَصعةَ حَتَّى فرَغوا، فدَفعَ القَصعةَ الصَّحيحةَ، وحَبَسَ المَكسورةَ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوجَبَ عليها الضَّمانَ بمِثلِ ما أتلَفَت، وهو مَعنى القاعِدةِ
[4057] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (13/36)، ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/115). .
3- مِنَ الإجماعِ:ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ المُنذِرِ
[4058] قال: (أمَّا الشَّيءُ الذي على مُتلفِه فيه مِثلُ ما أتلَف، مِثلُ: الحِنطةِ، والشَّعيرِ، والتَّمرِ، والزَّبيبِ، والسَّمنِ، وما أشبَهَ ذلك، وهذا على مَذهَبِ: مالكٍ، والشَّافِعيِّ، والنُّعمانِ، ويَعقوبَ، ومُحَمَّدٍ، وأبي ثَورٍ، ولا نَعلَمُ أحَدًا خالَف ذلك). ((الإقناع)) (2/711،710). ، وابنُ قُدامةَ
[4059] قال: (ما تَتَماثَلُ أجزاؤُه وتَتَقارَبُ صِفاتُه، كالدَّراهمِ والدَّنانيرِ والحُبوبِ والأدهانِ، ضُمِن بمِثلِه بغَيرِ خِلافٍ). ((المغني)) (7/362). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- مَن كَسَر دِرهَمًا أو دينارًا فعليه مِثلُه؛ لأنَّه غَيَّره بصُنعِه، ولا يَتِمُّ دَفعُ الضَّرَرِ عن صاحِبِه إلَّا بإيجابِ المِثلِ، والمَكسور للكاسِرِ إذا ضَمِنَ مِثلَه، وإن شاءَ صاحِبُه أخَذَه ولَم يَرجِعْ عليه بشَيءٍ، ويَستَوي إن كانت ماليَّةً انتَقَصَت بالكَسرِ أو لَم تنتَقصْ؛ لأنَّ صِفةَ العَينِ بغَيرِ فِعلِه، وذلك كافٍ لإثباتِ الخيارِ له إلَّا فيما يَكونُ زيادةً فيه
[4060] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/89،88). .
2- لَو أتلَف قَمحًا على صاحِبِه بأن تَعَدَّى وطَحَنَه، وجَبَ ضَمانُه بمِثلِه
[4061] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/362)، ((التاج والإكليل)) للمواق (6/593). .
3- إن غَصَبَ شَيئًا مَكِيلًا أو مَوزونًا، وتَلِفَ المَغصوبُ أو تَعَذَّرَ رَدُّه، فعليه مِثلُه، قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحَديثِ: "طَعامٌ مِثلُ طَعامٍ" مُجتَمَعٌ على استِعمالِه، والقَولُ به في كُلِّ مَطعومٍ، مَكِيلٍ أو مَوزونٍ، مَأكولٍ أو مَشروبٍ، أنَّه يَجِبُ على مُستَهلِكِه مِثلُه لا قيمَتُهـ)
[4062] ((التمهيد)) (9/181). ويُنظر: ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 302). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءٌ: يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ: لَبَنُ المُصَرَّاةِ
[4063] المُصَرَّاةُ: هيَ النَّاقةُ أوِ البَقَرةُ أوِ الشَّاةُ يُصَرَّى اللَّبَنُ في ضَرعِها، أي: يُجمَعُ ويُحبَسُ، فيَراه مُشتَريها كَثيرًا فيَزيدُ في ثَمَنِها. ((تهذيب اللغة)) للأزهري (12/ 157)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (1/ 501)، ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (4/ 221). ؛ فإنَّه يُضمَنُ بالتَّمرِ
[4064] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (8/290)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/118). .
قال صَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ: (ما شُرِع مِن رَدِّ المُصَرَّاةِ ورَدِّ صاعٍ مِنَ التَّمرِ مَعَها بَدَلَ اللَّبَنِ المَوجودِ في ضَرعِها، فإنَّه ما شُرِعَ هادِمًا لقاعِدةِ ضَمانِ المِثْليَّاتِ بالمِثلِ، والمُتَقَوِّماتِ بالقيمةِ، لَكِنَّه على وَجهِ الاستِثناءِ والاقتِطاعِ عن تلك القاعِدةِ لمَسيسِ الحاجةِ إليه؛ وذلك لأنَّ اللَّبَنَ الكائِنَ في الضَّرعِ لَدى البَيعِ اختَلَطَ بالحادِثِ بَعدَه، ولا يُمكِنُ التَّمييزُ بَينَهما، ولا إلى مَعرِفةِ القَدرِ المَوجودِ في الضَّرعِ لَدى البَيعِ، وكان الأمرُ فيه مُتَعَلِّقًا بمَطعومٍ يَقرُبُ الأمرُ فيه، خَلَّصَ الشَّارِعُ المُتَبايِعَينِ مِنَ المُنازَعةِ والوُقوعِ في وَرطةِ الجَهلِ بالتَّقديرِ بصاعٍ مِنَ التَّمرِ؛ لكَونِه مَطعومًا مِثلَه يَعُمُّ وجودُه في بلادِهم، وقيمَتُهما مُتَقارِبَتَينِ)
[4065] ((نهاية الوصول)) (7/3196،3195). .