موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: الأموالُ لا تُجبَرُ إلَّا بالأموالِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأموالُ لا تُجبَرُ إلَّا بالأموالِ" [4066] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/302) و (8/289). ، وصيغةِ: "الأموالُ لا تُجبَرُ إلَّا بجابرٍ ماليٍّ" [4067] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/179). ، وصيغةِ: "لا تُجبَرُ الأموالُ إلَّا بالمالِ" [4068] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/214). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الجوابِرُ هيَ ما شُرِعَ لاستِدراكِ المَصالِحِ الفائِتةِ، فلا يُشتَرَطُ فيمَن وجَبَ عليه الجابرُ أن يَكونَ آثِمًا؛ ولذلك شُرِعَ مَعَ العَمدِ والجَهلِ والعِلمِ والنِّسيانِ، وعلى المَجانينِ والصِّبيانِ، والجوابِرُ تَقَعُ في العِباداتِ والنُّفوسِ والأعضاءِ ومَنافِعِ الأعضاءِ والجِراحِ والأموالِ، وتَقصُرُ القاعِدةُ الحَديثَ عنِ الجَبرِ في الأموالِ، وتَهدفُ إلى تَنظيمِ العَلاقةِ بَينَ الأطرافِ فيما يَتَعَلَّقُ بالتَّعويضِ عنِ التَّلَفِ، أوِ الإضرارِ في الأموالِ، فالمالُ حينَما يُتلَفُ أو يَلحَقُه ضَرَرٌ فإنَّه يُجبَرُ بالمالِ لا بالصَّومِ ونَحوِه مِنَ الكَفَّاراتِ، فالأصلُ في جوابِرِ المالِ أن يُؤتى بعَينِ المالِ مَعَ الإمكانِ، فإن أتى به كامِلَ الذَّاتِ والصِّفاتِ بَرِئَ مِن عُهدَتِه، وإن أتى به ناقِصَ الأوصافِ جَبَر النَّقصَ بالقيمةِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الضَّمانُ بقَدرِ التَّلَفِ) [4069] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/179)، ((الفروق)) (1/214،213)، ((الذخيرة)) (3/302) و (8/289) كلاهما للقرافي. .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أهدَت بَعضُ أزواجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا في قَصعةٍ، فضَرَبَت عائِشةُ القَصعةَ بيَدِها فألقَت ما فيها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: طَعامٌ بطَعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ)) [4070] أخرجه الترمذي (1359) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (1022)، والطوسي في ((مختصر الأحكام)) (1263). صححه الترمذي والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (5244)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1359). وقِصَّةُ كَسرِ القَصعةِ أصلُها في صَحيحِ البُخاريِّ (2481) ولَفظُها: عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان عِندَ بَعضِ نِسائِه، فأرسَلَت إحدى أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ مَعَ خادِمٍ بقَصعةٍ فيها طَعامٌ، فضَرَبَت بيَدِها، فكَسَرَتِ القَصعةَ، فضَمَّها وجَعَلَ فيها الطَّعامَ، وقال: كُلوا، وحَبَسَ الرَّسولَ والقَصعةَ حَتَّى فرَغوا، فدَفعَ القَصعةَ الصَّحيحةَ، وحَبَسَ المَكسورةَ.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَبَر القَصعةَ -التي هيَ مالٌ- بالمالِ، ولَم يَجبُرْها بصَومٍ أو نَحوِه، ولَو كانت تُجبَرُ بغَيرِ المالِ لَبَّينَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك [4071] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (16/38 - 40)، ((عمدة القاري)) للعيني (13/37)، ((فيض القدير)) للمناوي (4/266). .
2- عن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه كَتَبَ له فريضةَ الصَّدَقةِ التي أمَرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَن بَلَغَت عِندَه مِنَ الإبِلِ صَدَقةُ الجَذَعةِ، وليست عِندَه جَذَعةٌ، وعِندَه حِقَّةٌ، فإنَّها تُقبَلُ مِنه الحِقَّةُ، ويَجعَلُ مَعَها شاتَينِ إنِ استَيسَرَتا له، أو عِشرينَ دِرهَمًا، ومَن بَلَغَت عِندَه صَدَقةُ الحِقَّةِ، وليست عِندَه الحِقَّةُ، وعِندَه الجَذَعةُ فإنَّها تُقبَلُ مِنه الجَذَعةُ، ويُعطيه المُصَدِّقُ عِشرينَ دِرهَمًا أو شاتَينِ، ومَن بَلَغَت عِندَه صَدَقةُ الحِقَّةِ، وليست عِندَه إلَّا بنتُ لَبونٍ، فإنَّها تُقبَلُ مِنه بنتُ لبَونٍ، ويُعطي شاتَينِ أو عِشرينَ دِرهَمًا، ومَن بَلَغَت صَدَقتُه بِنتَ لَبونٍ، وعِندَه حِقَّةٌ، فإنَّها تُقبَلُ مِنه الحِقَّةُ، ويُعطيه المُصَدِّقُ عِشرينَ دِرهَمًا أو شاتَينِ، ومَن بَلَغَت صَدَقتُه بِنتَ لَبونٍ وليست عِندَه، وعِندَه بنتُ مَخاضٍ، فإنَّها تُقبَلُ مِنه بنتُ مَخاضٍ، ويُعطي مَعَها عِشرينَ دِرهَمًا أو شاتَينِ) [4072] أخرجه البخاري (1453). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ جُبرانَ النَّقصِ في هذه الأصنافِ مِن أموالِ الزَّكاةِ بالمالِ، ولَم يَجبُرْها بغَيرِ المالِ [4073] يُنظر: ((الإفصاح)) لابن هبيرة (1/88)، ((تحفة الأبرار)) للبيضاوي (1/467،466)، ((المنثور)) للزركشي (2/9). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- مَن كَسَرَ شَيئًا صَحيحًا، فإن كان يوجَدُ مِثلُه فيَلزَمُه مِثلُه، وإن كان لا يوجَدُ مِثلُه، فعليه قيمَتُه [4074] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/129). .
2- إذا هَدَمَ شَخصٌ جِدارَ آخَرَ فإنَّه يَضمَنُه بمِثلِه عِندَ الحَنَفيَّةِ، وبقيمَتِه عِندَ آخَرينَ، ولَم يَقُلْ أحَدٌ بضَمانِه بغَيرِ المالِ، كالصَّومِ ونَحوِه [4075] يُنظر: ((التنبيه على مشكلات الهداية)) لابن أبي العز (5/661). .
3- مَنِ استَهلَكَ ذَهَبًا أو فِضَّةً أو طَعامًا مَكِيلًا أو مَوزونًا، فعليه مِثلُ ما استُهلكَ في صِفتِه ووزنِه وكَيلِه [4076] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (16/39). .

انظر أيضا: