موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الضَّمانُ بقَدرِ التَّلَفِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "الأصلُ تَقديرُ الضَّمانِ بقَدرِ التَّالِفِ" [4031] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/118)، ((طرح التثريب)) للعراقي (6/85)، ((تيسير التحرير)) لأمير باد شاه (3/52). ، وصيغةِ: "الضَّمانُ بَدَلُ التَّالِفِ" [4032] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (9/170). ، وصيغةِ: "ضَمانُ المَضمونِ بقَدرِ التَّلَفِ" [4033] يُنظر: ((العدة في شرح العمدة)) لابن العطار (2/1106). ، وصيغةِ: "الواجِبُ الأخذُ بقَدرِ التَّلَفِ" [4034] يُنظر: ((معونة أولى النهى)) لابن النجار (10/284). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
قَضَتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ بالعَدلِ في جَميعِ أحكامِها، ومِن ضِمنِ هذه الأحكامِ ما قَضَت به في الأثَرِ المُتَرَتِّبِ على الإتلافِ والتَّعَدِّي؛ حَيثُ ألزَمَتِ المُتَعَدِّيَ بضَمانِ ما أتلَفَه بالمِثلِ إن كان له مِثلٌ، فإن تَعَذَّرَ المِثلُ فبالقيمةِ، وهذا مِن تَمامِ العَدلِ فمُقتَضاها أن تُقابلَ كُلَّ تَعَدٍّ وجِنايةٍ بمِثلِهما؛ وذلك لأنَّ الإهدارَ يوجِبُ فتحَ بابِ الشَّرِّ والعُدوانِ؛ لأنَّ في طَبعِ كُلِّ أحَدٍ الظُّلمُ والبَغيُ والعُدوانُ، فإذا لم يُزجَرْ عنه أقدَمَ عليه ولَم يَترُكْه، وأمَّا الزِّيادةُ على قَدرِ الذَّنَبِ فهو ظُلمٌ، والشَّرعُ مُنَزَّهٌ عنه، فلَم يَبقَ إلَّا أن يُقابَلَ بالمِثلِ، بأن يَكونَ الضَّمانُ بقَدرِ التَّلَفِ؛ إنْ قَليلًا فقَليلٌ، وإنْ كَثيرًا فكَثيرٌ [4035] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (27/606،605)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/118)، ((روضة الطالبين)) للنووي (9/170)، ((طرح التثريب)) للعراقي (6/85)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/250)، ((تيسير التحرير)) لأمير باد شاه (3/52)، ((العدة في شرح العمدة)) لابن العطار (2/1106)، ((معونة أولى النهى)) لابن النجار (10/284). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: فَمَنْ ‌اعْتَدَى ‌عَلَيْكُمْ ‌فَاعْتَدُوا ‌عَلَيْهِ ‌بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ أوجَبَ المِثليَّةَ في رَدِّ الاعتِداءِ، والمِثلُ في الشَّرعِ مِثلانِ: مِثلٌ في الصُّورةِ، ومِثلٌ في القيمةِ، فإذا لم يُعتَبَرِ المِثلُ في الصُّورةِ اعتُبرَ في القيمةِ مَهما بَلَغَت، فإذا اعتَدى شَخصٌ باستِهلاكِ البَعضِ لَم يَجُزْ أن يُعتَدى عليه باستِهلاكِ الكُلِّ. وهذا هو مَضمونُ القاعِدةِ [4036] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/139) و (12/20)، ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (3/111). .
- وقال اللهُ سُبحانَه: وجَزاءُ سَيِّئةٍ سَيِّئةٌ مِثلُهَا [الشُّورى: 40] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ جَعَلَتِ العِقابَ مُماثِلًا للذَّنبِ، وهو مَعنى القاعِدةِ، أنَّ الضَّمانَ بقَدرِ التَّلَفِ والتَّعَدِّي [4037] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (11/6019)، ((مفاتيح الغيب)) للرازي (27/606،605). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((أهَدَت بَعضُ أزواجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا في قَصعةٍ، فضَرَبَت عائِشةُ القَصعةَ بيَدِها فألقَت ما فيها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: طَعامٌ بطَعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ)) [4038] أخرجه الترمذي (1359) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (1022)، والطوسي في ((مختصر الأحكام)) (1263). صححه الترمذي والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (5244)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1359). وقِصَّةُ كَسرِ القَصعةِ أصلُها في صَحيحِ البُخاريِّ (2481) ولَفظُها: عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان عِندَ بَعضِ نِسائِه، فأرسَلَت إحدى أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ مَعَ خادِمٍ بقَصعةٍ فيها طَعامٌ، فضَرَبَت بيَدِها، فكَسَرَتِ القَصعةَ، فضَمَّها وجَعَلَ فيها الطَّعامَ، وقال: كُلوا، وحَبَسَ الرَّسولَ والقَصعةَ حَتَّى فرَغوا، فدَفعَ القَصعةَ الصَّحيحةَ، وحَبَسَ المَكسورةَ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوجَبَ عليها ضَمانَ ما أتلَفَت نَتيجةَ تَعَدِّيها بقَدرِ ذلك، وهو مَعنى القاعِدةِ [4039] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (13/36)، ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/115). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- في الاعتِداءِ على اللِّسانِ كامِلًا الدِّيةُ؛ لأنَّ المُعتَديَ أبطَلَ المَنفَعةَ المَقصودةَ مِنه، ومَنفعةُ اللِّسانِ الكَلامُ، ولَو ذَهَبَ بَعضُ الكَلامِ بقَطعِ بَعضِ اللِّسانِ دونَ بَعضٍ ففيه حُكومةُ العَدلِ [4040] حُكومةُ العَدلِ: هيَ المالُ الذي يُقدِّرُه القاضي بمَعرِفةِ الخُبَراءِ فيما ليس فيه مِقدارٌ مُحَدَّدٌ شَرعًا، كاليَدِ الشَّلَّاءِ، ولسانِ الأخرَسِ ونَحوِه مِمَّا ذَهَبَ نَفعُه. يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (3/ 112)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (7/ 5738)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (21/ 45). ؛ لأنَّه لَم يوجَدْ تَفويتُ المَنفعةِ على سَبيلِ الكَمالِ، وقيلَ: تُقسَّمُ الدِّيةُ على عَدَدِ حُروفِ الهجاءِ، فيَجِبُ مِنَ الدِّيةِ بقَدرِ ما فاتَ مِنَ الحُروفِ؛ لأنَّ المَقصودَ مِنَ اللِّسانِ هو الكَلامُ، وقد فاتَ بَعضُه دونَ بَعضٍ، فيَجِبُ مِنَ الدِّيةِ بقَدرِ الفائِتِ مِنها، لَكِن إنَّما يَدخُلُ في القِسمةِ الحُروفُ التي تَفتَقِرُ إلى اللِّسانِ، فأمَّا ما لا يَفتَقِرُ إلى اللِّسانِ مِنَ الشَّفويَّةِ والحَلقيَّةِ -كالباءِ والفاءِ والهاءِ ونَحوِهما- فلا تَدخُلُ في القِسمةِ [4041] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/311). .
2- لَو شَهِدَ شاهِدانِ على قَطعِ يَدٍ، فقَضى القاضي بذلك، ثُمَّ رَجَعا عنِ الشَّهادةِ، فعليهما الدِّيةُ، وإن رَجَعَ أحَدُهما فعليه نِصفُ الدِّيةِ، وكَذلك لَو شَهِدا بمالٍ فقَضى القاضي به، ثُمَّ رَجَعَ أحَدُهما، فعليه نِصفُ المالِ، فإن رَجعا جَميعًا فعليهما المالُ كُلُّه [4042] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/180). .
3- لا قِصاصَ في جائِفةٍ -وهيَ: الجُرحُ الواصِلُ إلى باطِنِ الجَوفِ- ولا في كَسرِ عَظمٍ غَيرَ سِنٍّ ونَحوِه، كالضِّرسِ، ولا في قَطعِ القَصَبةِ -أي: قَصَبةِ الأنفِ- أو قَطعِ بَعضِ ساعِدٍ، أو قَطعِ بَعضِ ساقٍ، أو بَعضِ عَضُدٍ، أو بَعضِ وَركٍ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ الاستيفاءُ مِن ذلك بلا حَيفٍ؛ فإنَّه رُبَّما يُؤخَذُ أكثَرُ مِنَ الفائِتِ، أو يَسري إلى عُضوٍ آخَرَ، أو إلى النَّفسِ، فلَم يَجُزْ؛ لأنَّ الواجِبَ الأخذُ بقَدرِ التَّلَفِ لا أكثَرَ مِنه، فإذا أفضى الاستيفاءُ إلى الحَيفِ مُنِعَ مِنه؛ لتَعَذُّرِه، وانتَقَلَ إلى الدِّيةِ أوِ الحُكومةِ [4043] يُنظر: ((معونة أولي النهى)) لابن النجار (10/284). .

انظر أيضا: