الفَرعُ التَّاسِعُ: سُقوطُ أحَدِ الحَقَّينِ لا يُسقِطُ الآخَرَ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذا المَعنى في الصِّيَغِ الآتيةِ:
صيغةِ: "لَم يَجُزْ إسقاطُ أحَدِ الحَقَّينِ بالآخَرِ"
[3600] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/253). . وصيغةِ: "العَفوُ عن أحَدِ الحَقَّينِ لا يَكونُ عَفوًا عنِ الآخَرِ"
[3601] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/161). . وصيغةِ: "مَن ثَبَتَ له التَّخييرُ بَينَ حَقَّينِ، فإنِ اختارَ أحَدَهما سَقَطَ الآخَرُ، وإن أسقَطَ أحَدَهما ثَبَتَ الآخَرُ"
[3602] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/262). . وصيغةِ: "سُقوطُ فرضٍ لا يُسقِطُ فرضًا غَيرَه"
[3603] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (1/314). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه لا يَلزَمُ مِن سُقوطِ أحَدِ الحَقَّينِ بالعَفوِ عنه سُقوطُ الحَقِّ الآخَرِ، فإذا سَقَطَ أحَدُهما لا يَسقُطُ الآخَرُ بسُقوطِه مَعَ تَغايُرِهما وتَمَيُّزِ زَمانِهما، ومَن ثَبَتَ له التَّخييرُ بَينَ حَقَّينِ فإنِ اختارَ أحَدَهما سَقَطَ الآخَرُ، وإن أسقَطَ أحَدَهما ثَبَتَ الآخَرُ
[3604] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/161) و(11/445)، ((المنثور)) للزركشي (1/262). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ الحَقَّ إذا تَقَرَّرَ لصاحِبِه فلا يَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُه، وليس سُقوطُ أحَدِ الحَقَّينِ دَليلًا يَسقُطُ به الحَقُّ الآخَرُ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن صَفوانَ بنِ أُمَيَّةَ أنَّه نامَ في المَسجِدِ وتَوسَّدَ رِداءَه، فأُخِذَ مِن تَحتِ رَأسِه، فجاءَ بسارِقِه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقطَعَ، فقال صَفوانُ: يا رَسولَ اللهِ، لَم أُرِدْ هذا، رِدائي عليه صَدَقةٌ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فهَلَّا قَبلَ أن تَأتيَني به؟ )) [3605] أخرجه ابن ماجه (2595) واللفظ له، وأحمد (15303). صحَّحه ابنُ العربي في ((القبس)) (3/1024)، ومحمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/563)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2595)، وصحَّحه شعيب الأرناؤوط بطُرُقِه وشاهِدِه في تخريج ((مسند أحمد)) (15303). وفي روايةٍ بلفظ: قال صفوانُ: فأتيتُهُ فقلتُ: أتَقطعُهُ مِن أجلِ ثلاثينَ درهمًا، أَنا أبيعُهُ وأنسئُهُ ثمنَها. قال: فَهَلَّا كانَ هذا قبلَ أن تأتيَني بِهِ. أخرجها أبو داود (4394)، والنسائي (4883)، وأحمد (15310). صحَّحها الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4394)، وصحَّحها شعيب الأرناؤوط بطرُقِها وشاهدها في تخريج ((مسند أحمد)) (15310). وفي روايةٍ بلفظ: عن صفوانَ بنِ أميَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سُرِقَت خميصتُه من تحتِ رأسِه وهو نائمٌ في مسجِدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخذ اللِّصَّ، فجاء به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمر بقَطعِه، فقال صفوانُ: أتقطَعُه؟ قال: ((فهلَّا قبل أن تأتيَني به ترَكتَهـ)). أخرجها النسائي (4884) واللفظ له، وأحمد (15306). صحَّحها الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4884)، وصحَّحها شعيب الأرناؤوط بطرقها وشاهدها في تخريج ((مسند أحمد)) (15306). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه:
((فهَلَّا قَبلَ أن تَأتيَني به؟ ))، أي: فهَلَّا تَصَدَّقتَ وتَرَكتَ حَقَّكَ قَبلَ وُصولِه إلَيَّ، وأمَّا الآنَ فقَطعُه واجِبٌ، ولا حَقَّ لَكَ فيه، بَل هو مِنَ الحُقوقِ الخالِصةِ للشَّرعِ، ولا سَبيلَ فيها إلى التَّركِ، أي أنَّكَ وإن أسقَطتَ حَقَّكَ، فلا يَسقُطُ حَقُّ اللهِ تَعالى في الحَدِّ
[3606] يُنظر: ((المفاتيح)) للزيداني (4/264)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (8/2533)، ((شرح المصابيح)) لابن الملك (4/210). .
2- مِنَ القواعِدِ:فيُستَدَلُّ لَها بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا تَغَيَّبَتِ المَرأةُ عن زَوجِها، أو أبَت أن تَتَحَوَّلَ مَعَه إلى مَنزِلِه، وقد أوفاها مَهرَها، فلا نَفَقةَ لَها؛ لأنَّها ناشِزٌ ولا نَفَقةَ للنَّاشِزِ؛ لأنَّها إنَّما تَستَوجِبُ النَّفَقةَ بتَسليمِها نَفسَها إلى الزَّوجِ، فإذا امتَنَعَت مِن ذلك صارَت ظالِمةً، وقد فوَّتَت ما كان يوجِبُ النَّفَقةَ لَها باعتِبارِه، فلا نَفَقةَ لَها. وإن كان الزَّوجُ لَم يوفِها مَهرَها فأبَت عليه ذلك حَتَّى يوفيَها فلَها النَّفَقةُ؛ لأنَّها حَبَسَت نَفسَها بحَقٍّ، فلا تَكونُ مُفَوِّتةً ما به تَستَوجِبُ النَّفَقةَ حُكمًا، بَلِ الزَّوجُ هو المُفَوِّتُ بمَنعِها حَقَّها، ولِأنَّ النَّفَقةَ حَقُّها والمَهرَ حَقُّها، فمُطالَبَتُها بأحَدِ الحَقَّينِ لا تُسقِطُ حَقَّها الآخَرَ
[3607] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/186). .
2- إذا عَفا وليُّ الدَّمِ عنِ القِصاصِ ولَم يُصَرِّحْ بالعَفوِ عنِ المالِ، فقد سَقَطَ القِصاصُ بعَفوِه. وفي المالِ قَولانِ: أحَدُهما: أنَّه واجِبٌ إذا قيلَ: إنَّ جِنايةَ العَمدِ توجِبُ القَودَ أوِ المالَ؛ لأنَّ العَفو عن أحَدِ الحَقَّينِ لا يَكونُ عَفوًا عنِ الآخَرِ. والثَّاني: أنَّ المالَ لا يَجِبُ وقد سَقَطَتِ المُطالَبةُ به إذا قيلَ: إنَّ المالَ في جِنايةِ العَمدِ لا يَجِبُ إلَّا باختيارِ الوليِّ، والاختيارُ لَم يوجَدْ مِنه، وقد سَقَطَ خيارُه؛ لأنَّه يَكونُ على الفَورِ بَعدَ عَفوِه
[3608] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/161). ويُنظر أيضًا: ((المنثور)) للزركشي (1/262). .
3- إذا وجَبَ القِصاصُ على حامِلٍ، أو وجَبَ عليها ثُمَّ حَمَلَت، لَم يَجُزْ أن يُقتَصَّ مِنها حَتَّى تَضَعَ؛ لأنَّه قد تَقابَلَ في الحامِلِ حَقَّانِ: أحَدُهما: يوجِبُ تَعجيلَ قَتلِها وهو القِصاصُ. والثَّاني: استِبقاءُ حَياتِها وهو الحَملُ، فقُدِّمَ حَقُّ الحَملِ في الاستيفاءِ على حَقِّ القِصاصِ في التَّعجيلِ؛ لأنَّ في تَعجيلِ قَتلِها إسقاطَ أحَدِ الحَقَّينِ، وفي إنظارِها استيفاءُ الحَقَّينِ، فكان الإنظارُ أولى مِنَ التَّعجيلِ
[3609] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/115)، ((بحر المذهب)) للروياني (12/105). .