موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ السَّابِعُ: ما كان الانتِفاعُ به حَرامًا وإمساكُه حَرامًا فثَمَنُه حَرامٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما كان الانتِفاعُ به حَرامًا وإمساكُه حَرامًا فثَمَنُه حَرامٌ" [2555] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (4/54). ، وصيغةِ: "ما حَرُمَ الانتِفاعُ به فإنَّه يَحرُمُ الانتِفاعُ ببَيعِه وأكلِ ثَمَنِه" [2556] يُنظر: ((فتح القريب)) للفيومي (10/179). ، وصيغةِ: "ما كان الانتِفاعُ به حَرامًا فثَمَنُه حَرامٌ" [2557] يُنظر: ((نخب الأفكار)) للعيني (12/82). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما حَرَّمَ الشَّارِعُ الانتِفاعَ به وإمساكَه، فلا يَجوزُ بَيعُه وأكلُ ثَمَنِه؛ لكَونِه حَرامًا، وبَيانُه أنَّ ما يَحرُمُ الانتِفاعُ به قِسمانِ:
أحَدُهما: ما كان الانتِفاعُ به حاصِلًا مَعَ بَقاءِ عَينِه كالأصنامِ؛ فإنَّ مَنفعَتَها المَقصودةَ مِنها الشِّركُ باللهِ، وهو أعظَمُ المَعاصي على الإطلاقِ، ويَلتَحِقُ بذلك: ما كانت مَنفعَتُه مُحَرَّمةً، كَكُتُبِ الشِّركِ والسِّحرِ والبِدَعِ والضَّلالِ، وكذلك الصُّوَرُ المُحَرَّمةُ؛ فإنَّها يَحرُمُ بَيعُها وأكلُ أثمانِها.
والثَّاني: ما يُنتَفَعُ به مَعَ إتلافِ عَينِه، فإذا كان المَقصودُ الأعظَمُ مِنه مُحَرَّمًا فإنَّه يَحرُمُ بَيعُه، كَما يَحرُمُ بَيعُ الخِنزيرِ والخَمرِ والمَيتةِ مَعَ أنَّ في بَعضِها مَنافِعَ غَيرَ مُحَرَّمةٍ، كأكلِ المَيتةِ للمُضطَرِّ، ودَفعِ الغُصَّةِ بالخَمرِ، ولَكِن لمَّا كانت هذه المَنافِعُ غَيرَ مَقصودةٍ لم يُعبَأْ بها، وحَرُمَ البَيعُ؛ لكَونِ المَقصودِ الأعظَمِ مِنَ الخِنزيرِ والمَيتةِ أكلَهما، ومِنَ الخَمرِ شُربَها، ولَم يُلتَفَتْ إلى ما عَدا ذلك، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكملةً لقاعِدةِ (ما أدَّى إلى الحَرامِ فهو حَرامٌ) [2558] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/447-449)، ((فتح القريب)) للفيومي (10/179)، ((كشف اللثام)) للسفاريني (7/76). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ.
1- عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سَمعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الفتحِ وهو بمَكَّةَ يَقولُ: ((إنَّ اللَّهَ ورَسولَه حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ والمَيتةِ والخِنزيرِ والأصنامِ، فقيلَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ شُحومَ المَيتةِ فإنَّه يُطلى بها السُّفُنُ ويُدهَنُ بها الجُلودُ ويَستَصبِحُ بها النَّاسُ؟ فقال: لا، هو حَرامٌ، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ ذلك: قاتَلَ اللهُ اليَهودَ؛ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لمَّا حَرَّمَ عليهم شُحومَها أجمَلوه ثُمَّ باعوه فأكَلوا ثَمَنَه )) [2559] أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581) واللفظ له .
2- عن أبي سَعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ اللَّهَ تعالى حَرَّم الخَمرَ، فمَن أدرَكَته هذه الآيةُ وعِندَه مِنها شَيءٌ فلا يَشرَبْ ولا يَبِعْ. قال: فاستَقبَلَ النَّاسُ بما كان عِندَه مِنها في طَريقِ المَدينةِ فسَفَكوها )) [2560] أخرجه مسلم (1578). .
3- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رَجُلًا أهدى لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم راويةَ خَمرٍ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم: هَل عَلِمتَ أنَّ اللَّهَ قد حَرَّمَها؟ قال: لا. فسارَّ إنسانًا، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بمَ سارَرْتَه؟ قال: أمَرتُه ببَيعِها؟ قال: إنَّ الذي حَرَّمَ شُربَها حَرَّمَ بَيعَها. قال: ففتَحَ المَزادةَ حتَّى ذَهَبَ ما فيها )) [2561] أخرجه مسلم (1579). .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لعنَ اللهُ اليَهودَ؛ حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ فباعوها وأكَلوا أثمانَها، وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ إذا حَرَّمَ على قَومٍ أكلَ شَيءٍ حَرَّمَ عليهم ثَمَنَه )) [2562] أخرجه أبو داود (3488)، وأحمد (2678) واللفظ له صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (4938)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/267)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (4/113)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3488)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (650)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2678). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِن هذه الأحاديثِ:
تَدُلُّ الأحاديثُ السَّابِقةُ أنَّ كُلَّ ما حَرَّمَ اللهُ الانتِفاعَ به، كالخَمرِ، فإنَّه يَحرُمُ بَيعُه وأكلُ ثَمَنِه [2563] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (2/291)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/447)، ((كشف اللثام)) للسفاريني (7/76). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يَحرُمُ بَيعُ ما لم يُؤذَنْ في اتِّخاذِه مِنَ الكِلابِ، ويَحرُمُ أكلُ ثَمَنِه [2564] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (2/253)، ((الإقناع)) لابن المنذر (2/715)، ((مختصر اختلاف العلماء)) للجصاص (3/94)، ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (10/40). .
2- يَحرُمُ بَيعُ المَيتةِ؛ لأنَّها ليسَت أموالًا، فلا تَكونُ مَحَلًّا للبَيعِ، ويَحرُمُ أكلُ ثَمَنِها [2565] يُنظر: ((الإشراف)) (6/10)، ((الإجماع)) (ص: 94) كلاهما لابن المنذر، ((المحلى)) لابن حزم (1/128)، ((الهداية)) للمرغيناني (3/43)، ((الإجماع)) لابن القطان (2/227)، ((المجموع)) للنووي (9/230). .
3- بَيعُ الخُمورِ وأخذُ أثمانِها حَرامٌ؛ لحُرمةِ الانتِفاعِ بها [2566] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (2/ 419)، ((المغني)) لابن قدامة (6/ 320). ، ومِثلُها ثَمَنُ الحَشيشةِ [2567] يُنظر: ((الفتح الرباني)) للشوكاني (8/ 4211). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
يَحرُمُ أكلُ الحُمُرِ الأهليَّةِ، ويَجوزُ بَيعُها وأكلُ ثَمَنِها [2568] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (2/291). .

انظر أيضا: