موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: كُلُّ قِمارٍ حَرامٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ قِمارٍ حَرامٌ" [2495] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (2/140). ، وصيغةِ: "القِمارُ كُلُّه حَرامٌ" [2496] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/2858). ، وصيغةِ: "القِمارُ مُحَرَّمٌ" [2497] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (5/115). ، وصيغةِ: "كُلُّ القِمارِ حَرامٌ" [2498] يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/253). ، و"القِمارُ حَرامٌ" [2499] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (8/316). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
القِمارُ هو وسيلةٌ لأكلِ أموالِ النَّاسِ بيُسرٍ وسُهولةٍ، وبِغَيرِ حَقٍّ، وهو الذي لا يَخلو الدَّاخِلُ فيه مِن أن يَكونَ غانِمًا إن أخَذَ، أو غارِمًا إن أعطى، فهو قِمارٌ مُحَرَّمٌ، أي: يَأثَمُ فاعِلُه، وصورَتُه أن يُشتَرَطَ فيه جُعْلٌ مِنَ الجانِبَينِ، بأن يَقولَ مَثَلًا: إن سَبَقَ فرَسُك فلَك عليَّ كَذا، وإن سَبَقَ فرَسي فلي عليك كَذا [2500] يُنظر: ((الهداية)) لمكي ابن أبي طالب (3/1861)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/192)، ((روضة القضاة)) لابن السمناني (1/241)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/227)، ((منحة السلوك)) للعيني (ص:422). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَيسِرَ هو القِمارُ، وقد نَصَّ الشَّرعُ على أنَّه رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ، وهذا يَدُلُّ على حُرمَتِه [2501] يُنظر: ((تفسير السخاوي)) (1/234)، ((تفسير القرطبي)) (3/52)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/73). .
- وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ حَرَّمَت أكلَ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، والقِمارُ أكلٌ لأموالِ النَّاسِ بالباطِلِ. قال القُرطُبيُّ: (والمَعنى: لا يَأكُلْ بَعضُكُم مالَ بَعضٍ بغَيرِ حَقٍّ؛ فيَدخُلَ في هذا القِمارِ...) [2502] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/338). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن قال لصاحِبِه: تَعالَ أُقامِرْك، فليَتَصَدَّقْ )) [2503] أخرجه البخاري (4860)، ومسلم (1647). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ مَن قال لصاحِبِه: تَعالَ أقامِرْك، أن يَتَصَدَّقَ؛ ليَكونَ ثَوابُ الصَّدَقةِ كَفَّارةً لسَيِّئَتِه القَوليَّةِ، فإذا كان مُجَرَّدُ القَولِ هَكَذا ففِعلُ القِمارِ يَكونُ أعظَمَ وأشَدُّ [2504] يُنظر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (8/618)، ((فتح المنعم)) لموسى لاشين (6/458). .
3- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَلَه: أبو مَنصورٍ الماتُريديُّ [2505] قال: (الأصلُ عِندَنا في هذا: أنَّهم أجمَعوا على حُرمةِ المَيسِرِ مَعَ ما كان فيه مِنَ المَنافِعِ للفُقَراءِ وأهلِ الحاجةِ والمَعونةِ لهم؛ لأنَّهم كانوا يَقتَسِمونَ على الفُقَراءِ، فإذا حَرَّمَ اللهُ هذا ثَبَتَ أنَّ المَقرونَ به أحَقُّ في الحُرمةِ مَعَ ما فيه مِنَ الضَّرَرِ الذي ذَكَرنا. واللَّهُ أعلَمُ). ((تفسير الماتريدي)) (2/117). ، وابنُ الجَوزيِّ [2506] قال: (العُلَماء أجمَعوا على أنَّ القِمارَ كُلَّه حَرامٌ). ((زاد المسير)) (1/184). ، وابنُ بَطَّالٍ [2507] قال: (لم يَختَلِفِ العُلَماءُ أنَّ القِمارَ مُحَرَّمٌ). ((شرح صحيح البخاري)) (9/73). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إن تَسابَقا وشَرَطا أنَّ مَن سَبَق منهما فلَه على الآخَرِ مَبلغٌ مُعَيَّنٌ، لم يَصِحَّ؛ لتَرَدُّدِ كُلٍّ بَينَ أن يَغنَمَ ويَغرَمَ، فهو قِمارٌ مُحَرَّمٌ [2508] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/168). .
2- إنْ لَعِبَ اثنانِ الشِّطْرَنجَ وشَرَطا فيه مالًا مِنَ الجانِبَينِ، فهو قِمارٌ مُحَرَّمٌ إجماعًا، بخِلافِ ما لو لم يَشتَرِطا ذلك، فالمَنصوصُ عليه عِندَ الشَّافِعيَّةِ أنَّه مَكروهٌ كَراهةَ تَنزيهٍ، والأئِمَّةُ الثَّلاثةُ قالوا بتَحريمِه [2509] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/177)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/127)، ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1297)، ((فتاوى الخليلي على المذهب الشافعي)) (2/190)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/702). .
3- اليانَصيبُ: وهو مُسابَقةُ سَحبٍ يُسهمُ فيها عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ، بأن يَدفعَ كُلٌّ مِنهم مَبلَغًا صَغيرًا؛ ابتِغاءَ كَسبِ النَّصيبِ، وهو عِبارةٌ عن مَبلَغٍ كَبيرٍ، أو أيِّ شَيءٍ آخَرَ يوضَعُ تَحتَ السَّحبِ، ويَكونُ لكُلِّ مُساهمٍ رَقمٌ، ثُمَّ توضَعُ أرقامُ المُساهِمينَ في مَكانٍ، ويُسحَبُ مِنها عن طَريقِ الحَظِّ رَقمٌ أو أرقامٌ، فمَن خَرَجَ رَقمُه كان هو الفائِزَ بالنَّصيبِ، وهو حَرامٌ؛ لأنَّ عَمَليَّةَ اليانَصيبِ تَدخُلُ في القِمارِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُساهمينَ فيها إمَّا أن يَغنَمَ النَّصيبَ كُلَّه، أو يَغرَمَ ما دَفَعَه [2510] يُنظر: ((فقه المعاملات المالية)) إعداد الدرر السنية (4/215). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
تَنبيهٌ:
ليسَت كُلُّ مُخاطَرةٍ موجِبةً للتَّحريمِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وأمَّا المُخاطَرةُ فليس في الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ ما يوجِبُ تَحريمَ كُلِّ مُخاطَرةٍ، بَل قد عُلِمَ أنَّ اللَّهَ ورَسولَه لم يُحَرِّمْ كُلَّ مُخاطَرةٍ، ولا كُلَّ ما كان مُتَرَدِّدًا بَينَ أن يُغنَمَ أو يُغرَمَ أو يُسلمَ، وليس في أدِلَّةِ الشَّرعِ ما يوجِبُ تَحريمَ جَميعِ هذا النَّوعِ، لا نَصًّا ولا قياسًا، ولَكِن يَحرُمُ مِن هذه الأنواعِ ما يَشتَمِلُ على أكلِ المالِ بالباطِلِ، والموجِبُ للتَّحريمِ عِندَ الشَّارِعِ: أنَّه أكلُ مالٍ بالباطِلِ، كَما يَحرُمُ أكلُ المالِ بالباطِلِ وإن لم يَكُنْ هناكَ مُخاطَرةٌ، لا أنَّ مُجَرَّدَ المُخاطَرةِ مُحَرَّمةٌ، مِثلُ المُخاطَرةِ على اللَّعِبِ بالنَّردِ والشِّطرَنجِ، بَل لِما فيه مِن أكلِ المالِ بالباطِلِ، وهو ما لا يَنفعُ، فلَو جَعَلَ السُّلطانُ أو أجنَبيٌّ مالًا لمَن يَغلِبُ في ذلك لما جازَ، وإن لم يَكُنْ هناكَ مُخاطَرةٌ، وكذلك لو جَعَلَ أحَدُهما جُعْلًا، وكذلك لو أدخَلا بَينَهما مُحَلِّلًا، فعُلِمَ أنَّ ذلك لم يُحَرَّمْ لأجلِ المُخاطَرةِ، لا سيَّما وجُمهورُ العُلَماءِ يُحَرِّمونَ هذا العَمَلَ وإن خَلا عن عِوَضٍ) [2511] ((مختصر الفتاوى المصرية)) (2/ 374). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (والمُخاطَرةُ مُخاطَرَتانِ: مُخاطَرةُ التِّجارةِ، وهو أن يَشتَريَ السِّلعةَ بقَصدِ أن يَبيعَها برِبحٍ، ويَتَوكَّلَ على اللهِ في ذلك.
والخَطَرُ الثَّاني: المَيسِرُ الذي يَتَضَمَّنُ أكلَ المالِ بالباطِلِ، فهذا الذي حَرَّمَه اللهُ ورَسولُه، مِثلُ بَيعِ المُلامَسةِ والمُنابَذةِ، وحَبَلِ الحَبَلةِ، والملاقيحِ والمَضامينِ، وبَيعِ الثِّمارِ قَبلَ بُدُوِّ صَلاحِها.
ومِن هذا النَّوعِ يَكونُ أحَدُهما قد قَمَر الآخَرَ وظَلَمه، ويَتَظَلَّمُ أحَدُهما مِنَ الآخَرِ، بخِلافِ التَّاجِرِ الذي قدِ اشتَرى السِّلعةَ ثُمَّ بَعدَ هذا نَقَص سِعرُها، فهذا مِنَ اللهِ سُبحانَه، ليسَ لأحَدٍ فيه حيلةٌ، ولا يَتَظَلَّمُ مِثلُ هذا مِنَ البائِعِ) [2512] ((زاد المعاد)) (6/ 507)، والكلام مقتبس من شيخه ابن تيمية، يُنظر: ((جامع المسائل)) (8/ 328- 329). .

انظر أيضا: