موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّامِنُ: القَويُّ يَنوبُ عنِ الضَّعيفِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "القَويُّ يَنوبُ عنِ الضَّعيفِ" [1966] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/11)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/12). ، وبصيغةِ: "الأقوى يَنوبُ عنِ الأضعَفِ" [1967] يُنظر: ((التوسط بين مالك وابن القاسم)) للجبيري (ص: 47)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/581). ، و"الأقوى يَنوبُ عنِ الأدنى" [1968] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/127). ، و"يُجزِئُ الأعلى عنِ الأدنى" [1969] يُنظر: ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (1/500). . وصيغةِ: "يَدخُلُ القَويُّ على الضَّعيفِ ولا عَكسَ" [1970] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 158). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا اجتَمَعَ أمرانِ أو أكثَرُ مِن جِنسٍ واحِدٍ واختَلَفت صِفاتُهم، وكان الواجِبُ أضعَفَهم أو أقَلَّهم أو أدناهم، فإنَّه تَبرَأُ ذِمَّةُ المُكَلَّفِ مِن هذا الالتِزامِ بفِعلِ الأعلى والأقوى؛ لأنَّ الأعلى مُشتَمِلٌ على الأدنى وزيادةٍ؛ فإذا فعَلَ المُكَلَّفُ أعلى الخِصالِ أجزَأته عنِ الأدنى ما لم يَكُنِ الأدنى مَقصودًا لذاتِه أوِ اختَلَف الجِنسُ؛ فإنَّه لا يَنوبُ حينَئِذٍ الأعلى عنِ الأدنى، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكمِلةً لقاعِدةِ (التَّداخُلُ يَدخُلُ في ضُروبٍ) [1971] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/11)، ((التوسط بين مالك وابن القاسم)) للجبيري (ص: 47)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/127)، ((الفروق)) للقرافي (3/90)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/12). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والمَعقولِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رَجُلًا قال يَومَ الفتحِ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرتُ إن فتَحَ اللهُ عليك مَكَّةَ أن أُصَلِّيَ في بَيتِ المَقدِسِ، فقال: صَلِّ هَهنا، فسَألَه فقال: صَلِّ هَهنا، فسَألَه فقال: شَأنُك إذَنْ)) [1972] أخرجه أبو داود (3305)، وأحمد (14919) واللفظ له. صَحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (8050)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (266) وقالا: على شرط مسلم، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (112)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/509)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3305)، وصَحَّحَ إسناده النَّوويُّ في ((المجموع)) (8/473)، وابن كثير في ((الأحكام الكبير)) (1/374). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّه إذا نَذَرَ الأدنى جازَ الأعلى؛ لأنَّه أفضَلُ [1973] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/181)، ((لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح)) لعبد الحق الدهلوي (6/263). .
2- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ الأدنى مَوجودٌ في الأعلى وزيادةٌ [1974] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/127). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إن قَرَأ المُصَلِّي آيةَ سَجدةٍ وسَمِعَها أيضًا مِن آخَرَ في وقتٍ واحِدٍ، أجزَأَه سَجدةٌ واحِدةٌ في ظاهرِ الرِّوايةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّه أدَّى ما لزِمَه بالتِّلاوةِ، وهو أقوى مِنَ السَّماعيَّةِ؛ لأنَّ لها حُرمَتَينِ: حُرمةَ التِّلاوةِ لها، وحُرمةَ الصَّلاةِ، ولِلسَّماعيَّةِ حُرمةٌ واحِدةٌ، والقَويُّ يَنوبُ عنِ الضَّعيفِ، ولَوِ استَويا ناب أحَدُهما عنِ الثَّاني، فلَأَن يَنوبَ القَويُّ عنِ الضَّعيفِ أَولى [1975] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/11). .
2- القَبضُ المَوجودُ وَقتَ الهبةِ يَنوبُ عن قَبضِ الهبةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، سَواءٌ كان المَوجودُ وَقتَ العَقدِ مِثلَ قَبضِ الهبةِ أو أقوى مِنه؛ لأنَّه إذا كان مِثلَه أمكَنَ تَحقيقُ التَّناوُبِ؛ إذِ المُتَماثِلانِ يَنوبُ كُلُّ واحِدٍ مِنهما مَقامَ صاحِبِه ويَسُدُّ مَسَدَّه، وإذا كان أقوى مِنه يوجَدُ فيه المُستَحَقُّ وزيادةٌ، وبَيانُ هذا في مَسائِلَ: فإذا كان المَوهوبُ في يَدِ المَوهوبِ له وديعةً أو عاريَّةً فوُهِبَ مِنه، جازَتِ الهبةُ وصارَ قابِضًا بنَفسِ العَقدِ، ووقع العَقدُ والقَبضُ مَعًا، ولا يحتاجُ إلى تَجديدِ القَبضِ بَعدَ العَقدِ استِحسانًا، وكَذا لو رَهَنَ شَيئًا عِندَ شَخصٍ ثُمَّ وهَبَه إيَّاه فإنَّه يَصيرُ قابِضًا ويَنوبُ قَبضُ الرَّهنِ عن قَبضِ الهبةِ؛ لأنَّ قَبضَ الهبةِ قَبضُ أمانةٍ، وقَبضَ الرَّهنِ في حَقِّ العَينِ قَبضُ أمانةٍ أيضًا، فيَتَماثَلانِ، فناب أحَدُهما عنِ الآخَرِ، وإن كان قَبضُ الرَّهنِ قَبضَ ضَمانٍ فقَبضُ الضَّمانِ أقوى مِن قَبضِ الأمانةِ، والأقوى يَنوبُ عنِ الأدنى لوُجودِ الأدنى فيه وزيادةٍ، وإذا صَحَّت الهبةُ بالقَبضِ بطَلَ الرَّهنُ [1976] يُنظر: (((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/127،126)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/263)، ((الاختيار)) لابن مودود (3/49). .
3- لو نَذَرَ أن يَتَصَدَّقَ بثَوبٍ خَلَقٍ أو غَليظٍ وغَيرِ ذلك مِنَ الصِّفاتِ التي لا تَتَضَمَّنُ مَصلَحةً بَل هيَ مَرجوحةٌ في الثِّيابِ، فتَصَدَّقَ بثَوبٍ جَديدٍ أو غَيرِ ذلك مِنَ الثِّيابِ المَوصوفةِ بالصِّفاتِ الجَيِّدةِ، فإنَّه يُجزِئُه؛ فإنَّ النَّذرَ لمَّا ورَدَ على الثَّوبِ الخَلَقِ ورَدَ على شَيئَينِ، أحَدُهما: أصلُ الثَّوبِ، والآخَرُ: صِفتُه؛ فأمَّا التَّصَدُّقُ بأصلِ الثَّوبِ فقُربةٌ فتَجِبُ، وأمَّا التَّصَدُّقُ بوصفِ الخَلَقِ فلَيسَ فيه نَدبٌ شَرعيٌّ، فلا يُؤَثِّرُ فيه النَّذرُ، فيُجزِئُ ضِدُّه حينَئِذٍ؛ لأنَّ العُدولَ عنِ الصِّفةِ الدُّنيا إلى الصِّفةِ العُليا لا يَقدَحُ في موجِبِ النَّذرِ؛ لوُجودِها فيه وزيادةٍ [1977] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/90). .

انظر أيضا: