المَطلَبُ الأوَّلُ: شَهادةُ غَيرِ المُسلِمينَ بعضِهم على بعضٍ
اختَلَفَ الفُقَهاءُ في شَهادةِ غَيرِ المُسلِمينَ بعضِهم على بعضٍ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا تُقبَلُ شَهادةُ غَيرِ المُسلِمينَ بعضِهم على بعضٍ، سَواءٌ اتَّفَقَت مِلَلُهم أوِ اختَلَفَت، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ
[1415] ((الشرح الكبير)) الدردير (4/ 164)، ((منح الجليل)) لعليش (8/ 389). ، والشَّافِعيَّةِ
[1416] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/ 211)، ((نهاية المحتاج)) للرملي(8/ 292). ، والحَنابِلةِ
[1417] استثنى الحنابلةُ شَهادةَ أهلِ الكِتابِ في الوَصيَّةِ حالَ السَّفَرِ، فتَصِحُّ عِندَهم على مُسلِمٍ وعلى كافرٍ. ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين (8/ 301، 302)، ((الإنصاف)) للمرداوي (12/ 40،41). ، والظَّاهِريَّةِ
[1418] استَثنى الظَّاهِريَّةُ شَهادةَ الكُفَّارِ في الوصيَّةِ حالةَ السَّفَرِ، فتَصِحُّ عِندَهم. قال ابنُ حَزمٍ: (لا يَجوزُ أن يُقبَلَ كافِرٌ أصلًا لا على كافِرٍ ولا على مُسلِمٍ، حاشَ الوصيَّةَ في السَّفَرِ فقَط؛ فإنَّه يُقبَلُ في ذلك مُسلِمانِ، أو كافِرانِ -مِن أيِّ دينٍ كانا- أو كافِرٌ وكافِرَتانِ، أو أربَعُ كَوافِرَ ... وبه يَقولُ أبو سُلَيمانَ وجَميعُ أصحابِنا). ((المحلى بالآثار)) (8/ 491). ، وهو قَولُ بعضِ السَّلَفِ
[1419] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/ 61)، ((المغني)) لابن قدامة (10/166). .
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: من الكتابِ1- قال تعالى:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 65] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ غَيرَ المُسلِمِ ليس بعَدلٍ، ولا هو مِنَّا
[1420] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/ 211)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 292). .
2- قال تعالى:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ شَرَطَ أن يَكونَ الشُّهودُ مِنَ المُسلِمينَ، وغَيرُ المُسلِمِ ليس مِنَّا ولا مِن رِجالِنا ولا مِنَ المَرضيِّينَ عِندَنا
[1421] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/ 211)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 292). .
3- قَولُه تعالى:
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة: 14] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ جَعَلَ بَينَهمُ العَداوةَ والبَغضاءَ، ومَن كانَ هذا صِفَتَه لا تُقبَلُ شَهادَتُه على خَصمِه
[1422] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 148). .
ثانيًا: لأنَّ أهلَ الكِتابِ عَمَدوا الكَذِبَ على اللهِ، فأخبَرَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّهم كَذَبةٌ، وإذ كُنَّا نُبطِلُ الشَّهادةَ بالكَذِبِ على الآدَميِّينَ كانوا هُم أَولى
[1423] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/ 17)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/61). .
ثالثًا: لأنَّ قَبولَ شَهادَتِهم يُؤَدِّي إلى إلزامِ القاضي بشَهادَتِهم، ولا يَجوزُ أن يُلزَمَ المُسلِمُ بشَهادةِ الكافِرِ
[1424] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223). .
رابعًا: لأنَّ في قَبولِ شَهادَتِهم إكرامًا لَهم، ورَفعًا لمَنزِلَتِهم وقدرِهم، ورَذيلةُ الكُفرِ تَنفي ذلك
[1425] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 152). .
القَولُ الثَّاني: تُقبَلُ شَهادةُ غَيرِ المُسلِمينَ بَعضِهم على بَعضٍ مَعَ اتِّفاقِ مِلَلِهم واختِلافِها، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
[1426] عِندَ الحَنَفيَّةِ: لا تُقبَلُ شَهادةُ الحَربيِّ على الذِّمِّيِّ. ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223)، ((البناية)) للعيني (9/152). ، وروايةٌ للحَنابِلةِ
[1427] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/ 301 ، 302)، ((الإنصاف)) للمرداوي (12/ 40،41). ، واختاره ابنُ تَيميَّةَ
[1428] قال ابنُ تَيميَّةَ: (وإنما النِّزاعُ في قَبولِ شَهادةِ الكُفَّارِ بَعضِهم على بعضٍ، وفيه قولانِ عِندَ أحمدَ: أشهَرُهما عندَه وعندَ أصحابِه: أنَّها لا تُقبَلُ كَمَذهَبِ مالِكٍ والشَّافِعيِّ. والثَّانيةُ: أنَّها تُقبَلُ، اختارَها أبو الخَطَّابِ مِن أصحابِ أحمَدَ، وهو قَولُ أبي حَنيفةَ، وهو أشبَهُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ. وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا تَجوزُ شَهادةُ أهلِ مِلَّةٍ على أهلِ مِلَّةٍ إلَّا أُمَّتي؛ فإنَّ شَهادَتَهم تَجوزُ على مَن سِواهم"، فإنَّه لَم يَنفِ شَهادةَ أهلِ المِلَّةِ الواحِدةِ بَعضِها على بَعضٍ، بَل مَفهومُ ذلك جَوازُ شَهادةِ أهلِ المِلَّةِ الواحِدةِ بَعضِها على بَعضٍ، ولَكِن فيه بَيانُ أنَّ المُؤمِنينَ تُقبَلُ شَهادَتُهم على مَن سِواهم). ((مجموع الفتاوى)) (15/ 297). ، وابنُ عُثَيمين
[1429] قال ابنُ عُثَيمينَ: (فإن قال قائِلٌ: فَهِمنا أنَّ شَهادةَ الكافِرِ فيما يَتَعَلَّقُ بأُمورِ المُسلِمينَ لا تَجوزُ إلَّا عِندَ الضَّرورةِ، فهَل تَقبَلونَ شَهادةَ الكافِرِ، أي: شَهادةَ الكُفَّارِ بَعضِهم على بَعضٍ؟ الجَوابُ: نَعَم، سَواءٌ كانَ للضَّرورةِ أو لغَيرِ ضَرورةٍ، شَهادةُ الكُفَّارِ بَعضِهم على بَعضٍ مَقبولةٌ، لَكِن بشَرطِ أن يَكونَ عَدلًا في دينِه، كما اشتَرَطنا في شَهادةِ المُسلِمِ أن يَكونَ عَدلًا). ((تفسير المائدة لابن عثيمين)) (2/ 485، 456). ، وقال به جماعةٌ مِنَ السَّلَفِ
[1430] قال الماوَرديُّ: (وبه قال حَمَّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ، وسُفيانُ الثَّوريُّ، وقُضاةُ البَصرةِ: الحَسَنُ، وسَوَّارٌ، وعُبَيدُ اللهِ). ((الحاوي الكَبيرُ)) (17/61). وقال ابنُ قُدامةَ: (وهذا قَولُ حَمَّادٍ، وسَوَّارٍ، والثَّوريِّ، والبَتِّيِّ، وأبي حَنيفةَ، وأصحابِهـ). ((المغني)) (10/ 166). وعن إبراهيمَ الصَّائِغِ، قال: (سَألتُ نافِعًا مَولى ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عَن شَهادةِ أهلِ الكِتابِ بَعضِهم على بَعضٍ، فقال: تَجوزُ). ((مصنف ابن أبي شيبة)) (23326). .
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: من الكتابِ1- قَولُه تعالى:
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة: 106] .
وَجهُ الدَّلالةِ:هذا نَصٌّ على أنَّ شَهادةَ الكافِرِ مَقبولةٌ في وصيَّةِ المُسلِمِ، فتَكونُ في وصيَّةِ الكافِرِ أَولى
[1431] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223). .
2- قَولُه تعالى:
ومِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أخبَرَ اللهُ أنَّ مِنهمُ الأمينَ على مِثلِ هذا القَدرِ مِنَ المالِ، ولا رَيبَ أنَّ الشَّهادةَ تَعتَمِدُ على صِفةِ الأمانةِ
[1432] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 150). .
3- قَولُه تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال: 73] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ أثبَتَ لَهمُ الوِلايةَ بَعضِهم على بَعضٍ، والوِلايةُ أعلى رُتبةً مِنَ الشَّهادةِ، وغايةُ الشَّهادةِ أن تُشَبَّهَ بها
[1433] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223)، ((درر الحكام شرح غرر الأحكام)) (2/ 376). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِعَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ اليَهودَ جاؤوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَجُلٍ مِنهم وامرَأةٍ زَنَيا، فأمَرَ بهما فرُجِما قَريبًا مِن مَوضِعِ الجَنائِزِ عِندَ المَسجِدِ)) [1434] أخرجه البخاري (1329). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَكَم بشَهادةِ أهلِ الكِتابِ في الحُدودِ؛ فقد أقامَ الحَدَّ بقَولِهم، ولَم يَسألِ اليَهوديَّ واليَهوديَّةَ، ولا طَلَبَ اعتِرافَهما وإقرارَهما، وذلك ظاهِرٌ في سياقِ القِصَّةِ بجَميعِ طُرُقِها، ليس في شَيءٍ مِنها البَتَّةَ أنَّه رَجَمَهما بإقرارِهما
[1435] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 150، 151). .
ثالثًا: أنَّ الكُفَّارَ يَتَعامَلونَ فيما بَينَهم بأنواعِ المُعامَلاتِ مِنَ المُدايَناتِ وعُقودِ المُعاوضاتِ وغَيرِها، وتَقَعُ بَينَهمُ الجِناياتُ، ولا يَحضُرُهم مُسلِمٌ غالِبًا
[1436] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 151). .
رابِعًا: كما تُقبَلُ شَهادةُ النِّساءِ فيما لا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ، فالكُفَّارُ الذينَ لا يَختَلِطُ بهمُ المُسلِمونَ أَولى
[1437] يُنظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (12/ 40، 41)، ((تفسير القاسمي)) (12/4427). .
خامِسًا: أنَّ الكُفَّارَ يَتَحاكَمونَ إلينا، فلَو لَم تُقبَلْ شَهادةُ بَعضِهم على بَعضٍ لَأدَّى ذلك إلى تَظالُمِهم وضَياعِ حُقوقِهم، وفي ذلك فسادٌ كَبيرٌ؛ فأينَ الحاجةُ إلى قَبولِ شَهادَتِهم على المُسلِمينَ في السَّفَرِ مِنَ الحاجةِ إلى قَبولِ شَهادةِ بَعضِهم على بَعضٍ في السَّفَرِ والحَضَرِ؟
[1438] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/ 280، 281)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 151). .
سادِسًا: أنَّ الكافِرَ قد يَكونُ عَدلًا في دينِه بَينَ قَومِه، صادِقَ اللَّهجةِ عِندَهم، فلا يَمنَعُه كُفرُه مِن قَبولِ شَهادَتِه عليهم إذا ارتَضَوه، وقد رَأينا كَثيرًا مِنَ الكُفَّارِ يَصدُقُ في حَديثِه، ويُؤَدِّي أمانَتَه، بحَيثُ يُشارُ إليه في ذلك ويَشتَهِرُ به بَينَ قَومِه وبَينَ المُسلِمينَ، بحَيثُ يَسكُنُ القَلبُ إلى صِدقِه وقَبولِ خَبَرِه وشَهادَتِه ما لا يَسكُنُ إلى كَثيرٍ مِنَ المُنتَسِبينَ إلى الإسلامِ
[1439] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 151). .
سابِعًا: أنَّ اللهَ سُبحانَه أمَرَ بالحُكمِ بَينَهم إمَّا إيجابًا وإمَّا تَخييرًا، والحُكمُ إمَّا بالإقرارِ وإمَّا بالبَيِّنةِ، ومَعلومٌ أنَّهم مَعَ الإقرارِ لا يرتَفِعونَ إلينا، ولا يَحتاجونَ إلى الحُكمِ غالِبًا، وإنَّما يَحتاجونَ إلى الحُكمِ عِندَ التَّجاحُدِ وإقامةِ البَيِّنةِ، وهم في الغالِبِ لا تَحضُرُهمُ البَيِّنةُ مِنَ المُسلِمينَ، ومَعلومٌ أنَّ الحُكمَ بَينَهم مَقصودُه العَدلُ، وإيصالُ كُلِّ ذي حَقٍّ مِنهم إلى حَقِّه، فإذا غَلَبَ على الظَّنِّ صِدقُ مُدَّعيهم بمَن يَحضُرُه مِنَ الشُّهودِ الذين يَرتَضونَهم فيما بَينَهم، ولا سيَّما إذا كَثُروا، فالحُكمُ بشَهادَتِهم أقوى مِنَ الحُكمِ بمُجَرَّدِ نُكولِ ناكِلِهم أو يَمينِه
[1440] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 152). .