المَطلَبُ الثَّالِثُ: شَهادةُ غَيرِ المُسلِمينَ على المُسلِمينَ في الوصيَّةِ في السَّفَرِ
اختَلَفَ الفُقَهاءُ في شَهادةِ غَيرِ المُسلِمينَ على المُسلِمينَ في الوصيَّةِ في السَّفَرِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا تُقبَلُ شَهادةُ غَيرِ المُسلِمينَ على المُسلِمينَ في الوصيَّةِ في السَّفَرِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ
[1451] ((المبسوط)) للسرخسي (30/ 130)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223، 224). ، والمالِكيَّةِ
[1452] ((الشرح الكبير)) الدردير (4/ 164)، ((منح الجليل)) لعليش (8/ 389). ، والشَّافِعيَّةِ
[1453] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/ 211)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 292). .
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: من الكتابِ1- قال تعالى:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 65].
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ غَيرَ المُسلِمِ ليس بعَدلٍ، ولا هو مِنَ المُسلِمينَ
[1454] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/ 211)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 292). .
2- قال تعالى:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ شَرَطَ أن يَكونَ الشُّهودُ مِنَ المُسلِمينَ، وغَيرُ المُسلِمِ ليس مِنَّا ولا مِن رِجالِنا ولا مِنَ المَرضيِّينَ عِندَنا
[1455] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/ 211)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 292). .
ثانيًا: أنَّ المُرادَ مِن قَولِه عَزَّ وجَلَّ:
أو آخَرانِ مِن غَيرِكُم [المائدة: 106] أي: مِن غَيرِ قَبيلَتِكُم، وأنَّ قَولَه تعالى:
مِمَّن تَرضَونَ مِنَ الشُّهَداءِ في آيةِ الدَّينِ نَسَخَتها
[1456] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (30/ 130)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 223، 224). .
ثالِثًا: لأنَّ مَن لا تُقبَلُ شَهادَتُه على غَيرِ الوصيَّةِ لا تُقبَلُ في الوصيَّةِ
[1457] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/ 165). .
رابِعًا: لأنَّ الفاسِقَ لا تُقبَلُ شَهادَتُه؛ فالكافِرُ أَولى
[1458] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/ 165). .
القَولُ الثَّاني: تُقبَلُ شَهادةُ غَيرِ المُسلِمينَ على المُسلِمينَ في الوصيَّةِ في السَّفَرِ إذا لَم يوجَدْ غَيرُهم، وهو مَذهَبُ الحَنابِلةِ
[1459] في تَقييدِ ذلك بأهلِ الكِتابِ رِوايَتانِ في المَذهَبِ. ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/ 301، 302)، ((الإنصاف)) للمرداوي (12/ 39، 40). ، والظَّاهِريَّةِ
[1460] قال ابنُ حَزمٍ: (لا يَجوزُ أن يُقبَلَ كافِرٌ أصلًا لا على كافِرٍ ولا على مُسلِمٍ، حاشَ الوصيَّةَ في السَّفَرِ فقَط؛ فإنَّه يُقبَلُ في ذلك مُسلِمانِ أو كافِرانِ -مِن أيِّ دينٍ كانا- أو كافِرٌ وكافِرَتانِ، أو أربَعُ كَوافِرَ ... وبه يَقولُ أبو سُلَيمانَ وجَميعُ أصحابِنا). ((المحلى بالآثار)) (8/ 491). ، وهو اختيارُ ابنِ تَيميَّةَ
[1461] قال ابنُ تيميَّةَ: (وهذه الآيةُ الدَّالَّةُ على نُصوصِ الإمامِ أحمَدَ وغَيرِه مِن أئِمَّةِ الحَديثِ الموافِقينَ للسَّلَفِ في العَمَلِ بهذه الآيةِ وما يوافِقُها مِنَ الحَديثِ أوجَهُ وأقوى؛ فإنَّ مَذهَبَه قَبولُ شَهادةِ أهلِ الذِّمَّةِ على المُسلِمينَ في الوصيَّةِ في السَّفَرِ؛ لأنَّه مَوضِعُ ضَرورةٍ). ((مجموع الفتاوى)) (15/ 299). وقال أيضًا: (وإذا قَبِلنا شَهادةَ الكُفَّارِ في الوصيَّةِ في السَّفَرِ فلا يُعتَبَرُ كَونُهم مِن أهلِ الكِتابِ، وهو ظاهِرُ القُرآنِ). ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (5/206). ، وابنِ القَيِّمِ
[1462] قال ابنُ القَيِّمِ: (الآيةُ صَريحةٌ في قَبولِ شَهادةِ الكافِرينَ على الوصيَّةِ في السَّفَرِ عِندَ عَدَمِ الشَّاهِدَينِ المُسلِمَينِ، وقد حَكَمَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةُ بَعدَه، ولَم يَجِئْ بَعدَها ما يَنسَخُها؛ فإنَّ المائِدةَ مِن آخِرِ القُرآنِ نُزولًا، وليس فيها مَنسوخٌ، وليس لهذه الآيةِ مُعارِضٌ البَتَّةَ؛ فكانَ إجماعًا). ((إعلام الموقعين)) (1/ 72). ، والشَّوكانيِّ
[1463] قال الشَّوكانيُّ: (وذَهَبَ مالِكٌ والشَّافِعيُّ وأبو حَنيفةَ وغَيرُهم مِنَ الفُقَهاءِ أنَّ الآيةَ مَنسوخةٌ، واحتَجُّوا بقَولِه: مِمَّن تَرضَونَ مِنَ الشُّهَداءِ، وقَولِه: وأَشْهِدوا ذَوَيْ عَدلٍ مِنكُم، والكُفَّارُ لَيسوا بمَرضيِّينَ ولا عُدولٍ، وخالَفَهمُ الجُمهورُ فقالوا: الآيةُ مُحكَمةٌ، وهو الحَقُّ؛ لعَدَمِ وُجودِ دَليلٍ صَحيحٍ يَدُلُّ على النَّسخِ. وأمَّا قَولُه تعالى: مِمَّن تَرضَونَ مِنَ الشُّهَداءِ، وقَولُه: وأَشْهِدوا ذَوَيْ عَدلٍ مِنكُم فهُما عامَّانِ في الأشخاصِ والأزمانِ والأحوالِ، وهذه الآيةُ خاصَّةٌ بحالةِ الضَّربِ في الأرضِ وبالوصيَّةِ وبحالةِ عَدَمِ الشُّهودِ المُسلِمينَ، ولا تَعارُضَ بَينَ عامٍّ وخاصٍّ). ((فتح القدير)) (2/99). ، وابنِ عُثَيمين
[1464] قال ابنُ عُثَيمينَ: (الصَّحيحُ: أنَّ شَهادةَ الكافِرِ عِندَ الضَّرورةِ تَجوزُ سَواءٌ في السَّفَرِ أو غَيرِه، وسَواءٌ كانَ الكافِرُ مِن أهلِ الكِتابِ أو مِن غَيرِ أهلِ الكِتابِ؛ فمَثَلًا: لَو فرَضنا أنَّ رَجُلًا مَريضًا في المُستَشفى ويُمَرِّضُه طَبيبانِ مِنَ الكُفَّارِ، وأوصى عِندَ مَوتِه بوصيَّةٍ، ولَم يَحضُرْه في المُستَشفى قَبلَ مَوتِه إلَّا هذانِ الكافِرانِ، وشَهِدا؛ فإنَّنا نَقبَلُ شَهادَتَهما للضَّرورةِ). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (6/181). ، وهو قَولُ جُمهورِ السَّلَفِ
[1465] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (8/493،495)، ((المبسوط)) للسرخسي (30/ 130)، ((المغني)) لابن قدامة (10/ 165). ، وحُكي فيه إجماعُ الصَّحابةِ
[1466] قال ابنُ حَزمٍ: (فهؤلاء: أُمُّ المُؤمِنينَ، وأبو موسى الأشعَريُّ، وابنُ عَبَّاسٍ، ورُويَ أيضًا نَحوُ ذلك عَن عَليٍّ -رَضيَ اللهُ عنهم- ولا مُخالِفَ لَهم مِنَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم). ((المحلى)) (8/495). وقال ابنُ القَيِّمِ: (والآيةُ صَريحةٌ في قَبولِ شَهادةِ الكافِرينَ على الوصيَّةِ في السَّفَرِ عِندَ عَدَمِ الشَّاهِدَينِ المُسلِمَينِ، وقد حَكَمَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةُ بَعدَه، ولَم يَجِئْ بَعدَها ما يَنسَخُها؛ فإنَّ المائِدةَ مِن آخِرِ القُرآنِ نُزولًا، وليس فيها مَنسوخٌ، وليس لهذه الآيةِ مُعارِضٌ البَتَّةَ؛ فكانَ إجماعًا). ((إعلام الموقعين)) (1/ 72). .
الأدِلَّةُ: أوَّلًا: من الكتابِقَولُه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة: 106] .
وَجهُ الدَّلالةِ:الآيةُ صَريحةٌ في قَبولِ شَهادةِ الكافِرَينِ على الوصيَّةِ في السَّفَرِ عِندَ عَدَمِ الشَّاهِدَينِ المُسلِمينِ، ولَم يَجِئْ بَعدَها ما يَنسَخُها؛ فإنَّ المائِدةَ مِن آخِرِ القُرآنِ نُزولًا، وليس فيها مَنسوخٌ، وليس لهذه الآيةِ مُعارِضٌ البَتَّةَ
[1467] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 72)، ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/ 301، 302). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال:
((خَرَجَ رَجُلٌ مِن بَني سَهمٍ مَعَ تَميمٍ الدَّاريِّ وعَديِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهميُّ بأرضٍ ليس بها مُسلِمٌ، فلَمَّا قدِما بتَرِكَتِه فقدوا جامًا مِن فِضَّةٍ مَخوَّصًا مِن ذَهَبٍ، فأحلَفَهما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ وُجِدَ الجامُ بمَكَّةَ فقالوا: ابتَعناه مِن تَميمٍ وعَديٍّ. فقامَ رَجُلانِ مِن أوليائِه فحَلَفا: لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهما، وإنَّ الجامَ لصاحِبِهم. قال: وفيهم نَزَلَت هذه الآيةُ: يا أيُّها الذينَ آمَنوا شَهادةُ بَينِكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ [المائدة: 106] )) [1468] أخرجه البخاري (2780). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ تَميمًا الدَّاريَّ وعَديَّ بنَ بَدَّاءٍ كانا نَصرانيَّينِ، وقَبِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَهادَتَهما على وصيَّةِ السَّهميِّ حينَ ماتَ بأرضٍ ليس بها مُسلِمٌ
[1469] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 411). .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ1- عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: (فهذا لمَن ماتَ وعِندَه المُسلِمونَ، فأمَرَه اللهُ تعالى أن يُشهِدَ على وصيَّتِه عَدلَينِ مِنَ المُسلِمينَ، ثُمَّ قال تعالى:
أو آخَرانِ مِن غَيرِكُم إن أنتُم ضَرَبتُم في الأرضِ فأصابَتكُم مُصيبةُ المَوتِ [المائدة: 106] فهذا لمَن ماتَ وليس عِندَه أحَدٌ مِنَ المُسلِمينَ، فأمَرَه اللهُ تعالى بشَهادةِ رَجُلَينِ مِن غَيرِ المُسلِمينَ، فإنِ ارتيبَ بشَهادَتِهما استُحلِفا بَعدَ الصَّلاةِ باللهِ تعالى: لَم نَشتَرِ بشَهادَتِنا ثَمَنًا قَليلًا)
[1470] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (9/73)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (6932)، وابن النحاس في ((الناسخ والمنسوخ)) (ص: 404)، واللفظ له. صَحَّحه ابنُ القيم في ((الطرق الحكمية)) (ص: 155)، ووثَّق رجالَ إسنادِه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (5/483)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/207). .
2- عَنِ الشَّعبيِّ: (أنَّ رَجُلًا مِنَ المُسلِمينَ حَضَرَته الوفاةُ بدَقُوقاءَ ولَم يَجِدْ أحَدًا مِنَ المُسلِمينَ يُشهِدُه على وصيَّتِه، فأشهَدَ رَجُلَينِ مِن أهلِ الكِتابِ، فقدِما الكوفةَ فأتَيا أبا موسى الأشعَريَّ فأخبَراه وقدِما بتَرِكَتِه ووصيَّتِه، فقال الأشعَريُّ: هذا أمرٌ لَم يَكُنْ بَعدَ الذي كانَ في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأحلَفَهما بَعدَ العَصرِ باللهِ: ما خانا ولا كَذَبا ولا بَدَّلا ولا كَتَما ولا غَيَّرا، وإنَّها لَوصيَّةُ الرَّجُلِ وتَرِكَتُه، فأمضى شَهادَتَهما)
[1471] أخرجه أبو داود (3605)، واللفظ له، والحاكم (3266)، والبيهقي (20661). صَحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((التفسير)) (3/215)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3605)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3605): إسنادُه صَحيحٌ إن كانَ الشَّعبيُّ سَمِعَه مِن أبي موسى، ووثَّقَ رِجالَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (5/483)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/204): صالحٌ للاحتجاجِ. وذهب إلى تَصحيحِه على شَرطِ الشَّيخَينِ: الحاكِمُ .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الأثرَينِ:أنَّ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم عَمِلوا بالآيةِ بَعدَ مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فدَلَّ على أنَّها لَم تُنسَخْ
[1472] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 72). .