الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الثَّامِنةُ: اشتِراطُ ألَّا يَكونَ الشَّاهِدُ مَحدودًا في قَذفٍ


اختَلَفَ الفُقَهاءُ في اشتِراطِ ألَّا يَكونَ الشَّاهِدُ مَحدودًا في قَذفٍ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: تُقبَلُ شَهادةُ المَحدودِ في قَذفٍ إذا تابَ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ [1068] بشَرطِ ألَّا يَكونَ مَحدودًا في مِثلِ ما سَيَشهَدُ عليه. ((مواهب الجليل)) للحطاب (8/179). ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/225). ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (10/221). ، والشَّافِعيَّةِ [1069] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (13/37)، ((روضة الطالبين)) للنووي (11/245). ، والحَنابِلةِ [1070] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (10/180)، ((الإنصاف)) للمرداوي (12/59). ، وهو قَولُ بعضِ السَّلَفِ [1071] قال ابنُ حَزمٍ: (رُوِّينا ذلك عَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ...، ومِن طَريقِ عَليِّ بنِ أبي طَلحةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: القاذِفُ إذا تابَ فشَهادَتُه عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في كِتابِه تُقبَلُ. وصَحَّ أيضًا: عَن عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ، وأبي بَكرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمرِو بنِ حَزمٍ، وعُبَيدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ بنِ مَسعودٍ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، وابنِ أبي نَجيحٍ، والشَّعبيِّ، والزُّهريِّ، وحَبيبِ بنِ أبي ثابِتٍ، وعُمَرَ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ أبي طَلحةَ الأنصاريِّ، وسَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وعِكرِمةَ، وسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والقاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، وسالِمِ بنِ عَبدِ اللهِ، وسُلَيمانَ بنِ يَسارٍ، وابنِ قُسَيطٍ، ويَحيى بنِ سَعيدٍ الأنصاريِّ، ورَبيعةَ، وشُرَيحٍ. وهو قَولُ عُثمانَ البَتِّيِّ. وابنِ أبي لَيلى، ومالِكٍ، والشَّافِعيِّ، وأبي ثَورٍ، وأبي عُبَيدٍ، وأحمَدَ، وإسحاقَ، وبَعضِ أصحابِنا، إلَّا أنَّ مالِكًا قال: لا تُقبَلُ شَهادَتُه في مِثلِ ما حُدَّ فيه...، كُلُّ مَن رويَ عنه -أن لا تُقبَلَ شَهادَتُه وإن تابَ- فقد رويَ عنه قَبولُها، إلَّا الحَسَنَ، والنَّخَعيَّ فقَط). ((المحلى)) (8/530-532)، وقال العِمرانيُّ: (وبه قال عُمَرُ مِنَ الصَّحابةِ. ومِنَ التَّابِعينَ: عَطاءٌ، وطاوُسٌ، والشَّعبيُّ. ومِنَ الفُقَهاءِ: رَبيعةُ، ومالِكٌ، والأوزاعيُّ، وأحمَدُ، وإسحاقُ). ((البيان)) (13/317). ، واختاره ابنُ حزم [1072] قال ابنُ حَزمٍ: (ومَن حُدَّ في زِنًا، أو قَذفٍ، أو خَمرٍ، أو سَرِقةٍ، ثُمَّ تابَ وصَلَحَت حالُه، فشَهادَتُه جائِزةٌ في كُلِّ شَيءٍ، وفي مِثلِ ما حُدَّ فيهـ). ((المحلى)) (8/529). ، وابنُ بازٍ [1073] قال ابنُ بازٍ: (الفاسِقُ بزِنًا أو ‌قَذفٍ أو غَيرِ ذلك، إن تابَ وحَسُنَت حالُه تُقبَلُ شَهادَتُه؛ لأنَّ الأحكامَ تَدورُ مَعَ عِلَلِها، فمَتى ما أظهَرَ ما يَدُلُّ على العَدالةِ قُبِلَت شَهادَتُهـ). ((الحلل الإبريزية)) (2/398). ، وابنُ عُثيمين [1074] قال ابنُ عُثَيمينَ: (ويَنبَغي في مِثلِ هذا أن يُقال: إنَّه يَرجِعُ إلى نَظَرِ الحاكِمِ، فإذا رَأى مِنَ المَصلَحةِ عَدَمَ قَبولِ الشَّهادةِ لرَدعِ النَّاسِ عَنِ التَّهاوُنِ بأعراضِ المُسلِمينَ، فليَفعَلْ، وإلَّا ‌فالأصلُ أنَّه إذا زالَ الفِسقُ وجَبَ قَبولُ الشَّهادةِ). ((مجموع الفتاوى)) (9/506). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُوا بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُوا لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ * إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُوا [النور: 4-5]
وَجهُ الدَّلالةِ: من ثلاثةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ الاستِثناءَ بالتَّوبةِ يَرفَعُ حُكمَ ما تَقدَّمَ، والاستِثناءُ إذا انعَطَفَ على جُملةٍ عادَ إلى جَميعِها، ولَم يَختَصَّ ببَعضِها، فيَكونُ تَقديرُه: إلَّا الذينَ تابوا فاقبَلوا شَهادَتَهم، ولَيسوا بفاسِقينَ [1075] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/26)، ((المغني)) لابن قدامة (10/179). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الجَلدَ ورَدَّ الشَّهادةِ حُكمانِ، والفِسقُ عِلَّةٌ، والاستِثناءُ راجِعٌ إلى الحُكمِ دونَ العِلَّةِ [1076] ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/26). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/179). .
الوجه الثَّالِثُ: أنَّ الفِسقَ إخبارٌ عَن ماضٍ، ورَدُّ الشَّهادةِ حُكمٌ مُستَقبَلٌ، والاستِثناءُ يَرجِعُ إلى مُستَقبَلِ الأحكامِ، ولا يَرجِعُ إلى ماضي الأخبارِ [1077] ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/26). .
ثانيًا: أنَّ هذا افتِراءٌ على عَبدٍ مِن عِبادِ اللهِ تعالى، والافتِراءُ على اللهِ تعالى -وهو كُفرٌ- لا يوجِبُ رَدَّ الشَّهادةِ على التَّأبيدِ، بَل إذا أسلَمَ تُقبَلُ شَهادَتُه؛ فهذا أَولى [1078] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/218). .
ثالثًا: لأنَّه لَو تابَ قَبلَ إقامةِ الحَدِّ عليه تُقبَلُ شَهادَتُه، ولا جائِزَ أن تَكونَ إقامةُ الحَدِّ عليه هيَ الموجِبةَ لرَدِّ الشَّهادةِ؛ لأنَّه فِعلُ الغَيرِ به، وهو مُطَهِّرٌ أيضًا، فلا يَصلُحُ مَناطًا لرَدِّ الشَّهادةِ؛ فتَعَيَّنَ الرَّدُّ لفِسقِه، فإذا زالَ الفِسقُ قُبِلَت شَهادَتُه [1079] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/218). .
القَولُ الثَّاني: لا تُقبَلُ شَهادةُ المَحدودِ في قَذفٍ ولَو تابَ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1080] ((الهداية)) للمرغيناني (3/121)، ((العناية)) للبابرتي (7/400). ، وقولُ بعضِ السَّلَفِ [1081] قال ابنُ حَزمٍ: (وصَحَّ عَنِ الشَّعبيِّ في أحَدِ قَولَيه، والنَّخَعيِّ، وابنِ المُسَيِّبِ في أحَدِ قَولَيه، والحَسَنِ البَصريِّ، ومُجاهِدٍ في أحَدِ قَولَيه، ومَسروقٍ في أحَدِ قَولَيه، وعِكرِمةَ في أحَدِ قَولَيه: أنَّ القاذِفَ لا تُقبَلُ شَهادَتُه أبَدًا وإن تابَ. وعَن شُرَيحٍ: المَحدودُ في القَذفِ لا تُقبَلُ لَه شَهادةٌ أبَدًا. وهو قَولُ أبي حَنيفةَ، وأصحابِه، وسُفيانَ). ((المحلى)) (8/530)، وقال العمرانيُّ: (وقال شُرَيحٌ والنَّخَعيُّ والثَّوريُّ وأبو حَنيفةَ: لا تُقبَلُ شَهادَتُه أبَدًا). ((البيان)) (13/317). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور: 4] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ شَهادةَ المَحدودِ في القَذفِ على التَّأبيدِ، وذلك يَقتَضي ألَّا تُقبَلَ شَهادَتُه ولَو تابَ، فمَن قال: إنَّ المَنعَ مُؤَقَّتٌ إلى وُجودِ التَّوبةِ، كانَ قَولُه رَدًّا لما اقتَضاه النَّصُّ؛ فيَكونُ مَردودًا [1082] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/219). .
ثانيًا: أنَّ عَدَمَ قَبولِ الشَّهادةِ مِن تَمامِ الحَدِّ؛ لكَونِه مانِعًا، فيَبقى بَعدَ التَّوبةِ كَأصلِه، بخِلافِ المَحدودِ في غَيرِ القَذفِ؛ لأنَّ الرَّدَّ للفِسقِ وقدِ ارتَفَعَ بالتَّوبةِ [1083] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/121). .
ثالثًا: أنَّ رَدَّ الشَّهادةِ مَعطوفٌ على الجُملةِ المُتَقدِّمةِ، وهيَ حَدٌّ، فكَذا هذا، فصارَ مِن تَمامِ الحَدِّ؛ إذِ العَطفُ للِاشتِراكِ، وتَغايُرُهما بالأمرِ والنَّهيِ لا يَمنَعُ مِن ذلك، كَقَولِهم: اجلِسْ ولا تَتَكَلَّمْ؛ فكانَ الكُلُّ جَزاءَ جَريمَتِه [1084] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/219). .

انظر أيضا: