الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الرَّابِعةُ: البَصَرُ


اختَلَفَ العُلَماءُ في اشتِراطِ البَصَرِ وقتَ الأداءِ، على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: يُشتَرَطُ البَصَرُ وقتَ أداءِ الشَّهادةِ، فلا تُقبَلُ شَهادةُ الأعمى، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1022] ((الهداية)) للمرغيناني (3/121)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/217). ، وقال به بعضُ السَّلَفِ [1023] قال ابنُ قُدامةَ: (ورُويَ ذلك عَنِ النَّخَعيِّ، وأبي هاشِمٍ، واختُلِفَ عَنِ الحَسَنِ، وإياسٍ، وابنِ أبي لَيلى). ((المغني)) (10/170). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الأصواتَ تَشتَبِهُ، فلا يَحصُلُ اليَقينُ، فلَم يَجُزْ أن يشهَدَ بها، كالخَطِّ [1024] ((المغني)) لابن قدامة (10/170). .
ثانيًا: أن الأداءَ يَفتَقِرُ إلى التَّمييزِ بالإشارةِ بَينَ المَشهودِ له والمَشهودِ عليه، ولا يُمَيِّزُ الأعمى إلَّا بالنَّغْمةِ، وفيه شُبهةٌ يُمكِنُ التَّحَرُّزُ عَنها بجِنسِ الشُّهودِ، والنِّسبةِ لتَعريفِ الغائِبِ دونَ الحاضِرِ، فصارَ كالحُدودِ والقِصاصِ [1025] ((الهداية)) للمرغيناني (3/121). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ أداءُ الأعمى للشَّهادةِ إذا كانَ بَصيرًا وقتَ التَّحَمُّلِ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [1026] بشَرطِ أن يَتَحَمَّلَ على رَجُلٍ مَعروفِ الاسمِ والنَّسَبِ. ((روضة الطالبين)) للنووي (11/260)، ((حاشية قليوبي)) (4/328). والمَذهَبُ عِندَ الشَّافِعيَّةِ: أنَّ شَهادةَ الأعمى مَقبولةٌ فيما تَجوزُ الشَّهادةُ فيه بالاستِفاضةِ إذا لَم يَحتَجْ إلى تَعيينٍ وإشارةٍ، بأن يَكونَ الرَّجُلُ مَعروفًا باسمِه ونَسَبِه. يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (11/271). ، وقَولُ أبي يوسُفَ من الحَنَفيَّةِ [1027] ((الهداية)) للمرغيناني (3/121)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/217). ، وقال به بعضُ السَّلَفِ [1028] قال ابنُ حَزمٍ: (وهو قَولُ الحَسَنِ البَصريِّ، وأحَدُ قَولَيِ ابنِ أبي لَيلى). ((المحلى)) (8/532). ؛ وذلك لأنَّ اشتِراطَ البَصَرِ ليس لعَينِه، بَل لحُصولِ العِلمِ بالمَشهودِ به، وهذا يَحصُلُ إذا كانَ بَصيرًا وقتَ التَّحَمُّلِ [1029] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/268). .
القَولُ الثَّالِثُ: لا يُشتَرَطُ البَصَرُ وقتَ الأداءِ، فتُقبَلُ شَهادةُ الأعمى في المَسموعاتِ [1030] قال البنانيُّ: ((وإن ‌أعمى ‌في ‌قَولٍ إلخ) لا خُصوصيَّةَ للقَولِ، بَل تَجوزُ فيما عَدا المَرئيَّاتِ مِنَ المَسموعاتِ والمَلموساتِ والمَذُوقاتِ والمَشموماتِ. ابنُ عَرَفةَ: نَقَلَ المازريُّ عَنِ المَذهَبِ: تَجوزُ شَهادةُ البَصيرِ فيما يَصحُّ أن يَعلَمَه البَصيرُ اهـ. قال طفى: وإنَّما خَصَّ المُصَنِّفُ كَغَيرِه الأقوالَ؛ لأنَّ المَلموسَ والمذوقَ والمَشمومَ يَستَوي فيها الأعمى وغَيرُه، فهيَ مَحَلُّ اتِّفاقٍ، وإنَّما مَحَلُّ الخِلافِ المَسموعاتُ، فمَذهَبُ مالِكٍ رَحِمَه اللهُ الجَوازُ، ومَذهَبُ الشَّافِعيِّ والحَنَفيِّ كالجُمهورِ المَنعُ). ((حاشية البناني على شرح الزرقاني)) (7/ 294). ، بشَرطِ أن يتيقَّنَ الصَّوتَ [1031] أمَّا شَهادَتُه في المَرئيَّاتِ التي تَحَمَّلَها قَبلَ عَماه فاختَلَفَ فيها أصحابُ هذا القَولِ؛ فيَرى المالِكيَّةُ في المُعتَمَدِ أنَّ شَهادَتَه فيها غَيرُ مَقبولةٍ، ويَرى الحَنابِلةُ أنَّ شَهادَتَه فيها مَقبولةٌ. يُنظر: ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (7/294)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/426، 427). ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ -في المشهورِ- [1032] يَجوزُ -في المَشهورِ عِندَ المالِكيَّةِ- الأداءُ في الأقوالِ دونَ الأفعالِ، ولَو تَحَمَّلَها حالَ عَماه. ((مواهب الجليل)) للحطاب (8/166)، ((منح الجليل)) لعليش (8/396). ، والحَنابِلةِ [1033] يُؤَدِّي المَسموعاتِ حالَ عَماه، وما تَحَمَّلَه مِمَّا رَآهُ قَبلَ عَماه. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (10/182)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/426، 427). ، والظَّاهِريَّةِ [1034] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (8/532). ، وقال به بعضُ السَّلَفِ [1035] قال ابنُ حَزمٍ: (ورُويَ ذلك عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، وصَحَّ ذلك عَنِ الزُّهريِّ، وعَطاءٍ، والقاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، والشَّعبيِّ، وشُرَيحٍ، وابنِ سيرينَ، والحَكَمِ بنِ عُتَيبةَ، ورَبيعةَ، ويَحيى بنِ سَعيدٍ الأنصاريِّ، وابنِ جُرَيجٍ، وأحَدُ قَولَيِ الحَسَنِ، وأحَدُ قَولَيِ إياسِ بنِ مُعاويةَ، وأحَدُ قَولَيِ ابنِ أبي لَيلى، وهو قَولُ مالِكٍ، واللَّيثِ، وأحمَدَ، وإسحاقَ، وأبي سُلَيمانَ، وأصحابِنا). ((المحلى)) (8/532). وقال ابنُ قُدامةَ: (رُويَ هذا عَن عَليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ. وبه قال ابنُ سيرينَ، وعَطاءٌ، والشَّعبيُّ، والزُّهريُّ، ومالِكٌ، وابنُ أبي لَيلى، وإسحاقُ، وابنُ المُنذِرِ). ((المغني)) (10/170). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: واستَشهِدوا شَهيدَينِ مِن رِجالِكُم [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الأعمى مِن رِجالِنا، وهو مُتَيَقِّنٌ لصَوتِ المَشهودِ عليه؛ فوجَبَ أن يَدخُلَ في هذه الآيةِ [1036] يُنظر: ((الممتع في شرح المقنع)) لابن المنجى (4/658). .
ثانيًا: أنَّ السَّمعَ أحَدُ الحَواسِّ التي يَحصُلُ بها اليَقينُ، وقد يَكونُ المَشهودُ عليه مَن ألِفَه الأعمى، وكَثُرَت صُحبَتُه لَه، وعَرَفَ صَوتَه يَقينًا، فيَجِبُ أن تُقبَلَ شَهادَتُه فيما تَيَقَّنَه، كالبَصيرِ [1037] ((المغني)) لابن قدامة (10/170). .
ثالثًا: لحُصولِ العِلمِ له بذلك، فتَجوزُ شَهادَتُه قياسًا على جَوازِ استِمتاعِه بزَوجَتِه [1038] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/426). .
رابِعًا: أنَّ الأعمى رَجُلٌ عَدلٌ مَقبولُ الرِّوايةِ، فقُبِلَت شَهادَتُه، كالبَصيرِ [1039] ((المغني)) لابن قدامة (10/170). .

انظر أيضا: